رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حكايات النفوس الميتة


إنها النفوس التى تقيم حياتها على موت الآخرين، وتراكم ثرواتها على حساب بؤس الشعب. نفوس مثل المحامين الأربعة الموالين لنظام مرسى وهم: محمد طوسون -وكيل مجلس الشورى- ومحمد محسوب، وعصام سلطان، ومحمد الدماطى الذين أسسوا معا شركة محاماة لإبرام عقود الاتفاق على التصالح فى قضايا الأموال المنهوبة مقابل نسبة 17,5%.

فى أبريل 2009 احتفل العالم بمرور مائتى عام على ميلاد الكاتب الروسى العملاق نيقولاى جوجول الذى خرج الأدب الروسى كله من«معطفه». كان معظم ما كتبه جوجول مشبعا بالخيال والسخرية والفكاهة الآسية. وعندما قدم جوجول مسرحيته الأشهر «المفتش العام» فى بطرسبورج عام 1836 حضر القيصر نيقولاى الأول وقال بعد انتهاء العرض «لم يسلم موظف واحد فى الدولة من النقد حتى أنا»! وعندما توفى الكاتب فى 21 فبراير 1852 حظر القيصرعلى الصحف نشر نبأ وفاته لكن صديقه الروائى «تورجينيف» تمرد على أوامر القيصر وأذاع الخبر.

عام 1955 قدم إسماعيل يس المسرحية ذاتها معربة، وقدمها من بعده عبد المنعم مدبولى فى الستينيات مع بداية البث التليفزيونى. إلا أن لجوجول رواية عبقرية لم تنل فى مصر شهرة المفتش العام هى « نفوس ميتة» التى صدرت فى 1842، فظلت مثالا للأدب حين يتجاوز عصره ومجتمعه إلى كل العصور والمجتمعات التى تتجدد فيها «النفوس الميتة».

بطل الرواية محتال، يقطع مسافات طويلة ليشترى «الأرواح الميتة»، وهى أرواح عبيد ماتوا بالفعل لكن يتعين على سادتهم أن يستمروا فى دفع الضرائب عنهم حتى تتأكد وفاتهم رسميا لدى الدولة أثناء مراجعة تتم كل عشر سنوات. يعرض المحتال على ملاك العبيد الموتى أن يقوم بدفع تلك الضريبة واستعداده لتقديم قليل من المال مقابل شهادات تثبت ملكيته لأولئك العبيد الموتى. ويوافق الملاك بسرعة على بيع شىء لا وجود له مقابل التخلص من الضريبة. ونتيجة لتلك الشهادات يصبح المحتال مالكا رسميا لآلاف النفوس الميتة، ويحظى نتيجة للثروة الموهومة بمكانة مرموقة تدرجه فى عداد أعمدة المجتمع ومن ثم يصبح مؤهلا للزواج من امرأة ثرية!

وقد عاشت رواية جوجول ومازالت لأن الأدب العظيم - مثله مثل العلم - يكتشف القوانين العامة الصالحة لكل الأزمنة. لهذا كتب «ألبرت أينشتين» واضع نظرية النسبية يقول إن «الشعر والعلم يتطلبان نفس النوع من المجرى الفكرى». وقد وضع جوجول أيدينا على قانون عام يمكن قراءة الواقع على ضوئه فى روسيا أو فى مصر أو غيرهما، ألا وهو أن مجتمعا تكون فيه الثروة ناجمة عن الموت والخواء مجتمع محكوم عليه بالفناء، وأن مجتمعا يتاجر بالموتى وتتفشى فيه النفوس الميتة – وهى هنا نفوس الأحياء الذين ماتت ضمائرهم – مجتمع يمضى على طريق مسدود. لكن ما الذى ذكرنى الآن بهذه الرواية العبقرية؟

قفزت هذه الرواية إلى ذهنى ما إن قرأت أن محكمة شمال القاهرة أصدرت فى 4 فبراير الحالى أحكامها بشأن مذبحة ماسبيرو التى وقعت فى أكتوبر 2011 عند خروج إخوتنا الأقباط للاحتجاج على هدم كنيسة فى قرية المريناب بأسوان وعلى التصريحات التى أدلى بها محافظ أسوان. وتحولت المظاهرة إلى مواجهة مع قوات الأمن المركزى انتهت بمصرع نحو ثلاثين مواطنا أغلبهم أقباط. فى 4 فبراير 2013 صدرت الأحكام من ضمنها حكم بمعاقبة مايكل مسعد بالسجن المشدد ثلاث سنوات بتهمة حيازة سلاح غير مرخص أثناء المظاهرة. الحكم بثلاث سنوات على «مايكل مسعد» ليس أمرا مهولا فى زمن تعطى فيه السلطات الضوء الأخضر لاغتيال المعارضين. المشكلة الوحيدة التى صادفت الحكم وتنفيذه أن «مايكل مسعد» توفى خلال الاحتجاج ومازال متوفيا منذ أكثر من عام! علما بأن القانون فى مثل هذه الحالات يقضى بانقضاء الدعوى لوفاة المتهم! فى رواية جوجول يصبح الموت والخواء هوالأساس الذى يتعيش عليه المحتالون، والموت والخواء هو أيضا الأساس الذى تتعيش عليه الفاشية التى تذهب لأبعد مدى حين تعاقب الموتى بالسجن المشدد، وتعتقل المعارضين، وتهدد وتروع كل من ينطق بالحقيقة، وتسمح بصدور الفتاوى كتلك التى أطلقها «محمود شعبان» على قناة «الحافظ» بقتل أعضاء جبهة الإنقاذ، وتزج بالأطفال الصغار فى الزنازين وتنتزع منهم الاعترافات الملفقة، وتسحل البشر جهارا نهارا، وتغتالهم بالخراطيش، وتختطفهم وتخفيهم، وخلال ذلك تؤرجح الفاشية رأسها يمينا وشمالا من وجد ومن ورع وتسبل جفونها على دموع الطهر والتقوى!

لقد أصبح الموت هو الحقيقة التى يتغذى عليها النظام السياسى الراهن، إما باغتيال الأحياء، أو ببعث الحياة فى إنسان توفى منذ أكثر من عام لمعاقبته، وهو أمر لم يصل إليه حتى خيال الروائيين العظام! النفوس الميتة عند جوجول ليس من مات من العبيد، لكنهم الأحياء الذين ماتت ضمائرهم، إنهم القضاة الموالون للإخوان والذين أفرجوا عن صفوت الشريف بضمان محل إقامته، بينما ألزموا شباب الثورة بأن يدفع كل منهم خمسة آلاف جنيه كفالة!

النفوس الميتة هى التى عينت بالغصب وبانتهاك سيادة القضاء المستشار «طلعت إبراهيم» نائبا عاما، ثم عاقبت المستشار مصطفى خاطر بنقله إلى بنى سويف لأنه رفض حبس من أحاطوا قصر الاتحادية بالغضب. ويعيد النائب العام طلعت إبراهيم الإخوانى إلى الأذهان قصة المحامى «إبراهيم الهلباوى» الذى كان أول نقيب للمحامين فى مصر، وأشهر من نار على علم فى مجال القضاء، لكنه ارتضى لنفسه فى 13 يونيو 1906 أن يكون المدعى العام مع الاحتلال الإنجليزى ضد الفلاحين فى حادثة دنشواى، وتضمنت كلمته حينذاك قوله بالنص:«هؤلاء السفلة من فلاحى دنشواى الذين أساءوا ظن المحتلين بالمصريين بعد أن مضى خمسة وعشرون عاما ونحن معهم فى إخلاص واستقامة لا يستحقون رحمة أو شفقة.. والدين الإسلامى يبرأ من هؤلاء المتوحشين»! ونتيجة لنفس الهلباوى الميتة تم إعدام أربعة فلاحين وجلد اثنى عشر آخرين كانت جريمتهم الوحيدة أنهم دافعوا عن أبراج الحمام. حينذاك كتب الشاعر حافظ إبراهيم يخاطب الهلباوى بقصيدته:

أيها المدعى العمومى مهلاً

بعض هذا فقد بلغت المرادا

أنت جـلادنـا فــلا تــنــس أنـنــا

قد لبسنا على يديك الحدادا

إنها النفوس التى تقيم حياتها على موت الآخرين، وتراكم ثرواتها على حساب بؤس الشعب. نفوس مثل المحامين الأربعة الموالين لنظام مرسى وهم: محمد طوسون -وكيل مجلس الشورى- ومحمد محسوب، وعصام سلطان، ومحمد الدماطى الذين أسسوا معا شركة محاماة لإبرام عقود الاتفاق على التصالح فى قضايا الأموال المنهوبة مقابل نسبة 17,5% للقيام بتعطيل رد الأموال عن طريق البنوك السويسرية وإخفاء حقيقة المبالغ المهربة باستغلال مواقعهم داخل مجلس الشورى وعلاقاتهم بالرئاسة والإخوان.. انقضى على ظهور رواية «نفوس ميتة» أكثر من قرن ونصف القرن، ومع ذلك فإننا مازلنا نقرأ الحاضر على ضوئها، ونعى أن النظام والحكم الذى لا يجد ما يعيب فى سحل البشر وتعذيب الأطفال وظهور فتوى بقتل المعارضين هو نظام «النفوس الميتة» الذى يقيم حياته على موت الآخرين. نقرأ وندرك أن كل نظام سياسى تتفشى فيه «الأرواح الميتة» مآله الوحيد هو أيضا السقوط والتلاشى، لأن الحياة تحتفى بالحياة وتقدسها، ولأن العين بالعين، والموت بالموت. هذه سنة الحياة وقانونها لا يفلت منه نظام، أو طاغية.

■ كاتب وأديب