رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

المواد الانتقامية فى الدستور


إن الدستور الجديد يفقد مشروعيته، نتيجة لعدم التوافق عليه وإنما يعبر فقط عن آراء وتوجهات تيار معين».إن الدستور الجديد يفقد مشروعيته، نتيجة لعدم التوافق عليه وإنما يعبر فقط عن آراء وتوجهات تيار معين»، التى وضعت فى الدستور الجديد النص

الذى وضع خصيصا لإقصاء عضو من أعضاء المحكمة الدستورية العليا لأسباب غير مفهومة، إنهم صنيعة طمع الملك فؤاد لوراثة الخلافة العثمانية وخداع بريطانى لوراثة التركة العثمانية فعلى أقل ما توصف به هذه الفترة التى تمر بها مصر من ناحية التحول الديمقراطى ومن حيث الاستقرار السياسى، أنها فترة من الغيوم والاحتقان والاضطراب. وأسباب ذلك واضحة والنتائج أيضا واضحة. إن المواد الموجودة فى الدستور والخاصة بالمحكمة الدستورية العليا انتقامية، ومن الممكن أن تفقد مشروعيتها الدستورية من خلال رفع دعوى قضائية، أما الأسباب؛ فلعل أهمها أننا تجنبنا الطريق الطبيعى الذى كان يجب أن نسلكه بعد ثورة الشباب فى «25 يناير عام 2011»، وإسقاط نظام حسنى مبارك وتولى المجلس الأعلى للقوات المسلحة زمام الأمور فى مصر، تعاونه حكومة مدنية برئاسة الفريق أحمد شفيق لمدة عدة أيام، ثم الدكتور عصام شرف لعدة أشهر، إلى أن تمت انتخابات رئاسة الجمهورية وإعلان فوز الدكتور محمد مرسى برئاسة الجمهورية بفارق ضئيل. وبذلك بدأ تيار الإسلام السياسى يحكم مصر. وفى ظل هذا التيار أجريت انتخابات لمجلس الشعب واختيرت جمعية تأسيسية لوضع مشروع الدستور وبالفعل وضعت مشروعا للدستور واستفتى الشعب عليه وقيل إنه حاز أغلبية من أدلوا بأصواتهم فى الاستفتاء. هذه هى الخطوات كما توالت إلى أن وصلنا إلى مرحلة الدستور القائم حاليا.

لم تمر هذه الخطوات منذ بدايتها بيسر أو سهولة وكانت محل صراعات واحتقانات فى كل خطواتها. الجمعية التأسيسية الأولى التى كلفت بوضع مشروع الدستور طعن عليها بعدم مشروعيتها، وبالفعل صدر حكم من القضاء الإدارى بذلك، ثم كونت لجنة ثانية على غرار الأولى ومن التيار نفسه الذى شكلت منه وطعن فى مشروعية هذه اللجنة أيضا، ولكن حدث من الاضطراب التشريعى والقضائى ما حال دون الفصل فى الطعن على مشروعية هذه اللجنة، ولكن عددا كبيرا من أعضاء اللجنة انسحب منها لعدم رضائه عن طريقة سير العمل فى اللجنة من ناحية، وعدم رضائه عن توجهاتها من ناحية أخرى. ولكن ذلك كله لم يمنع تيار الإسلام السياسى، متمثلا أساسا فى حزب الحرية والعدالة «الجناح السياسى لحركة الإخوان المسلمين»، من الاستمرار ومواصلة العمل إلى أن خرج على مصر دستور أقل ما يقال فيه إنه أثار من القلق والاضطراب والاحتقان أكثر مما كان مطلوبا منه من استقرار الأمور. وكان الوصف السائد لهذا الدستور عند طوائف الشعب كافة أنه دستور غير توافقي، وأنه لا يعبر إلا عن اتجاه واحد هو اتجاه الإسلام السياسى كما يفهمه الإخوان المسلمون، وليس الإسلام الوسطى المعتدل الذى عرفه شعب مصر طوال القرون الماضية والذى مثله فى الفترة الأخيرة الإمام محمد عبده والإمام شلتوت والإمام الطيب ومن سار على نهجهم، وهم كُثر والحمد لله الإسلام الذى لا يخلط بين الدين والسياسة، لأن الدين يقوم على اليقين والإيمان، والسياسة تقوم على المصالح المتغيرة.. الدين مطلق والسياسة نسبية، والخلط بين الأمرين لا يقبله منطق العقل. المهم صدر الدستور، وقيل إن أغلبية من شاركوا فى الاستفتاء وافقوا عليه، وثارت شكوك كثيرة حول ذلك، فضلا عن أن نسبة المشاركة فى هذا الاستفتاء كانت أقل نسبة فى كل الاستفتاءات التى تمت منذ 25 يناير 2011 وحتى الآن. أقل من عشرة فى المائة ممن لهم حق التصويت من الشعب المصرى هم الذين وافقوا على هذا الدستور أستطيع أن أقول باطمئنان إن هذا الدستور يمكن قسمته إلى ثلاثة أقسام واضحة:

القسم الأول: مجموعة النصوص التى أخذت من دستور 1971، وهى فى الغالب لا بأس بها، وهى مجموعة كبيرة من نصوص هذا الدستور. نذكر على سبيل المثال المادة 74 من الدستور الجديد التى نقل بعضها من دستور 1971، والتى تقول: «سيادة القانون أساس الحكم فى الدولة. واستقلال القضاء وحصانة القضاة ضامنتان أساسيتان لحماية الحقوق والحريات».. ونصوص كثيرة أخرى

أما القسم الثانى: فهى مجموعة من النصوص التى لا صلة لها بالأحكام الدستورية.. نصوص إنشائية لا شأن لها بالدستور. النصوص الدستورية تقوم أساسا لكى تحدد سلطات الدولة وعلاقة السلطات بعضها ببعض، وعلاقة المواطنين بهذه السلطات، وحقوق وحريات المواطنين. هذا هو الأصل فى النصوص الدستورية، ولكن الدستور الجديد احتوى على كثير من النصوص التى لا شأن لها بهذه الموضوعات الدستورية والتى تعتبر نوعا من «الحشو» لا مبرر له.

خذ مثلا نص المادة 16 التى تقول: «تلتزم الدولة بتنمية الريف والبادية وتعمل على رفع مستوى معيشة الفلاحين وأهل البادية»، أو عبارة: «نهر النيل وموارد المياه ثروة وطنية»، أو عبارة: «الدولة تعمل على تنمية المحاصيل والأصناف النباتية»، و«ممارسة الرياضة حق للجميع»، و«ولكل مواطن الحق فى التعليم عالى الجودة»، و«لكل شخص الحق فى بيئة صحية سليمة»، و«تلتزم الجامعات بتدريس القيم والأخلاق».. كلها عبارات إنشائية لا صلة لها بالأحكام الدستورية على النحو الذى أشرت إليه، ورفعها من الدستور لن ينقص منه إلا مزيدا من «الحشو» غير الضرورى فى الصياغات الدستورية، التى يجب أن تكون محكمة مطابقة لمقتضى الحال بغير تزيد أو انتقاص.

أما القسم الثالث من الدستور: فهو ما أسميه «المواد الكارثية»، المواد التى تتضمن مفرقعات أو كوارث دستورية والعياذ بالله. وأوضح الأمثلة لهذه المواد، المادة 176، المتعلقة بكيفية تشكيل المحكمة الدستورية، التى تقول: «تشكل المحكمة الدستورية العليا من رئيس وعشرة أعضاء، ويبين القانون الجهات والهيئات القضائية أو غيرها التى ترشحهم، وطريقة تعيينهم، والشروط الواجب توافرها فيهم، ويصدر بتعيينهم قرار من رئيس الجمهورية».هذا النص الكارثى يفتح الباب بمقتضى عبارة «... الجهات والهيئات القضائية أو غيرها...»، هذه العبارة - أو غيرها - تعطى وزارة التموين أو المرافق أو هيئة الصرف الصحى مثلا أو مكتب الإرشاد الحق فى ترشيح أعضاء المحكمة الدستورية العليا. أليست هذه كارثة حقيقية؟! وخذ أيضا نص المادة 219 التى تقول: «مبادئ الشريعة الإسلامية تشمل أدلتها الكلية، وقواعدها الأصولية والفقهية، ومصادرها المعتبرة، فى مذاهب أهل السنة والجماعة».وهذا النص يفتح الباب واسعا لكثير من الاجتهادات والتأويلات التى يعلم الله وحده إلى أين تقود البلاد والعباد. وكان نص المادة الثانية من الدستور التى تتكلم عن كون «مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع» كافيا ومحل اتفاق بين الجميع.

■ أستاذ القانون الدولى