رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

القسوة.. ليست سمة المصريين


المصرى ممتد ورحب كالصحراء، وصحراؤه ليست فظّة ولا تنجب أجلافاً بل فيها رقة السماء التى تظللها بندف القطن المتناثرة على صفحتها الزرقاء، وهو معطاء كأرضه السمراء أخضر كزرعها، يقدس الأسرة وتماسكها، يحترم القيم، لكن مما لاشك فيه أن ثمة تحولات قد حدثت فى الفترة الأخيرة أثرت فى درجة هذا التماسك.

تهون على المصرى نفسه جداً حينما يهون الوطن فى المكان الذى يعمل به، المصرى ممتد ورحب كالصحراء، وصحراؤه ليست فظّة ولا تنجب أجلافاً بل فيها رقة السماء التى تظللها بندف القطن المتناثرة على صفحتها الزرقاء، وهو معطاء كأرضه السمراء أخضر كزرعها. يقدس الأسرة وتماسكها، يحترم القيم، لكن مما لاشك فيه أن ثمة تحولات قد حدثت فى الفترة الأخيرة أثرت فى درجة هذا التماسك، فحدث نوع من الاغتراب العائلى، وأصبحت لزوجة العلاقات وتمحورها حول المادة معوقاً للاقتراب، تناثرت ثلة الأصدقاء، اختفت نقرات الأصابع من على الأبواب، غنت الأجراس الإلكترونية، توارت الطيبة والمحبة لمصلحة التوجهات العملية من الحصول على فائدة أو فوائد ما، يلتم الشمل وينفرط بسرعة، أصبح يلتهم طعامه بسرعة، يشرب مشروبه وماءه بسرعة، يجرى بسرعة، يقود سيارته وموتوسيكله ودراجته بسرعة، ييأس بسرعة، يملَّ بسرعة، يفقد صبره بسرعة، يتألم بسرعة، ينزعج بسرعة، يفرح بسرعة وتنطفئ الفرحة لديه بسرعة، كل هذه التوترات السريعة الناتجة عن توتر العصر وتعقدات الحياة، تشابكها ماديتها وفقدانها للروحانية والرومانسية، أدت إلى تغييرات شتى فى السمات الشخصية لنفسية الإنسان المصرى، وهو بحسه القديم وتاريخه المتأصل، بالجينات المختلطة والمركبة، بحضاراته المتعاقبة، بفرعونيته، إسلامه، قبطيته، عروبته، هذه التشكيلة ليست ترفاً ولا مجرد فسيفساء كثيرة الألوان وإنما هى قاعدة ثرية غنية توحى بضرورة أن هذه السمات ستظل تتأرجح وتتماوج على أرضية سخية، وإن كان عطاؤها مختلفاً ومتبدلاً وفق ما يقتضيه الحال. هل نحن بحاجةـ فعلاًـ لأن يكون لدينا فهم لبناء الشخصية المصرية وتحديدها !! إذا كان فى الأساس موضوع الشخصية عمومًا مازال عصيًا على الفهم مثيرًا للجدل. ويعود السؤال المُلح: هل لتلك الشخصية كينونة ثابتة؟ أم أنها صَيرورة متغيرة؟ ولماذا يتلهف الناس وراء هذا الفهم أو ذاك؟!! إن مفاهيم الشخصية المختلفة ما هى إلا لتيسير لفهم عام لتجارب الحياة التى نمر بها وسلوكنا الذى نسلكه حيال أمور شتى، لا يمكن لنا عامة، وتحديدًا فى مصر أن نراها، الأمر لا يحتاج إلى نظرة واحدة، ولا إلى تعريف ثابت أو جامد، لكنه يحتاج وبالفعل إلى تصور ديناميكى متطور يستوعب داخله كيانات وتطورات وأحداثاً ومتغيرات تمر بها مصر كمصر، ومصر كجزء من العالم العربى، ومصر كجزء من الكون ككلّ، وهذا فى حَدّ ذاته كثير، فاعل ومتفاعل، إيجابى وسلبى فى آن واحد، ولكى نكون أكثر تحديدًا. لنا أن نحدد تعريف الشخصية عامة إذا ما أردنا تطبيقه على المصري؟! نعنى الشخصية من منظورنا، تلك العوامل الذاتية الداخلية المركبة التى تجعل سلوك الإنسان ثابتًا متصقًا مع ثقافته العامة والمباشرة مع محيطه الفردى والجماعى، مرنًا دون مبالغة، محافظًا على مكنوناته وقابلاً للتغيير وفق الظرف الزمانى والمكانى، وإذا طبقنا ذلك على (شخصية المصرى) لوجب القول أنه لا بد أن يكون مختلفًا عما عداه، أى عن (غير المصرى)، وهذا ما يدعونا إلى تأمل بعض النماذج داخل الوطن المصرى وخارجه، تلك التى لا تقلد الغربى فقط وإنما تذوب فيه ذوبانًا بحيث تضيع هويتها الأصلية أو تكاد، لنا أن نتأمل شخصية المصرى: من المنظور النظرى، أو بمعنى خصائصها المتميزة أو غير الطيبة. من المنظور العام البسيط الذى يعنى الاشتراك فى منظومة من المعتقدات والعادات والتقاليد والسمات التى تظهر جلية فى تفاعلات الحياة اليومية: هذا التطور يكمن فى لُحمة اللغة ومفرداتها تلك العامية المنطوقة، أو تلك التى تستخدمها أجهزة الإعلام المختلفة، أو تلك يكتب بها الأدب، وهى أيضًا تلك اللغة التى تنظم وتبسط العالم الاجتماعى، فتظهر نسق القيم وسلوكيات الناس فى عملهم وزواجهم، أفراحهم وأتراحهم. فى مصر الآن أكثر من أى وقت مضى مشكلة نفسية لفظية، قبح لفظى، عنف حوارى، كلمات صدئة ومفردات مفزعة تنبع من قلب البيئة التى تلوث هواءها كما تلوث وجدانها. إن اعتراف الحركات الجهادية الرئيسة فى مصر بأن العنف فشل فى إحداث تغيير سياسى، وبأنه فى الواقع كان ضارّاً، دفع بهذه الحركات إلى تغيير مسارها بشكل لافت. بعد سنوات من المواجهة العنيفة مع النظام والمجتمع فى مصر، وبعد الهزيمة على يد قوات الأمن، تقبّلت الجماعة الإسلامية ولاحقاً شرائح من جماعة الجهاد فشلها فى إحداث تغيير جذرى فى المجتمع والسياسة، وفى الوقت نفسه إدراك الضرر الذى أوقعته أنشطتها العنيفة– التى كانت تُبَرَّر فى السابق باستخدام المفاهيم الدينية – بالمسلمين وغير المسلمين على حدّ سواء. هذه التطوّرات أدّت إلى بروز نهج مُراجعة جهادى ينبذ العنف ويعيد تحديد المواقف تجاه الدولة والسياسة والمجتمع. المفاهيم الإسلامية نفسها التى استُخدِمَت لتبرير العنف أُعيد تعريفُها لإقرار النشاط الاجتماعى والسياسى اللاعنفى والحثّ عليه. ثمة عوامل متنوّعة تمنع الجماعة الإسلامية وجماعة الجهاد من التطبيق الكامل لهذه الآراء المُقوَّمة، مثل رفض النظام المصرى السماح لأعضاء أيّ من الجماعتين بالاندماج من جديد فى النسيج السياسى والاجتماعى للبلاد، والتحدّى الواضح الذى تواجهه جماعة الجهاد فى نشر الأفكار التى تمّت مراجعتها فى حركتها المشتّتة التى لا تزال تتغاضى عن العنف إلى حدّ كبير.

إلا أن نهج المراجعة الجهادية، دفع المجموعتين إلى التخلّى عن العنف وحوّل الطيف الإسلامى فى مصر نحو الاعتدال. هناك أدوار مختلفة منها الدور المنوط برجال الأمن وأدوار أخرى منوطة بقادة ونخبة المجتمع سواء أساتذة علم الاجتماع ومنظمات المجتمع المدنى، أو رجال الدين. أهل الخبرة الذين اكتسبوا خبرتهم من حياة مليئة بالتجارب أكسبتهم حكمة غدونا فى أشد الحاجة إليها لاسيما فى الوقت الراهن. إن انتشار نوعية جديدة من العنف والجرائم فى المجتمع المصرى إنما يعود بالأساس إلى انتشار وسائل الإعلام التى تغطى كل حدث يقع فى مصر، حيث أصبح الإعلام كلمة السر فى كل القضايا والأحداث التى يكشف عنها، ويرجع ذلك إلى أن مصر خلال هذه الآونة تشهد مناخاً إعلامياً أصبح معه من غير الجائز الحديث عن تابوهات مغلقة أو خطوط حمراء أو حقول ألغام، فالخريطة باتت واضحة والتغطية أصبحت صريحة، وهو ما يتضح فى الكثير من القضايا مثل قضية تسريب الامتحانات والتى شهدتها مصر خلال فترات سابقة، ومع ذلك فإن تعرض وتناول وسائل الإعلام المختلفة لهذه القضية على نحو مكثف أكسبها أبعاداً أخرى لتغدو أقرب إلى قضايا الرأى العام.

■ أستاذ القانون الدولى