رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

من أطلق الرصاص علينا فى بورسعيد؟


فى صباح يوم السبت الدامى احتشد الآلاف من شباب المدينة الباسلة يستمعون لحكم المحكمة وبعد تلاوة القرار بإحالة 21 متهماً إلى فضيلة المفتى ثار عدد من الشباب حيث سبق أن أعلن فى الأيام الماضية أن النائب العام تقدم للمحكمة بأدلة جديدة ومتهمين جدد وهذا يتطلب فتح باب المرافعة وكان هذا يمثل تخديراً للشباب وأهالى المتهمين ولكن قرار المحكمة أحدث صدمة لدى هؤلاء الشباب.

حيث كان تجمعهم بجوار سجن بورسعيد وهم فى هذه الحالة منذ عدة أيام حتى يمنعوا ترحيل المتهمين بعد أن تلقوا تهديدات بالخطر حول نقل المتهمين للقاهرة.. وبدلاً من اتخاذ الإجراءات الأمنية فى مواجهة أحداث كان متوقعاً حدوثها.. فقد دخلت المدينة مساء الجمعة أعداد كبيرة من المدرعات وسيارات الأمن المركزى وكنا نعتقد أنهم أتوا لتأمين المدينة!!

ولكن، ودون استعمال «التدرج الأمنى» بإطلاق خراطيم المياه أو استعمال بنادق الرش أو استعمال وسائل أخرى، استعمل الأمن مباشرة ودون إنذار الرصاص الحى فى الحشود مما جعل المدينة تعيش بين طلقات الرصاص الحى وصراخ السيدات وهتاف الشباب واستمر ذلك طويلاً بين قوات مسلحة ومدرعة وشباب لا يملك سوى صدوره العارية.. وسقط عشرات الشباب فى شوارع المدينة وأكثر من 300 جريح فى اللحظات الأولى ولكن وزارة الداخلية أعلنت أن هناك محاولات لاقتحام السجن والجميع يعلم أن سجن المدينة ذو تحصينات ولا يمكن اختراقها، ولكن الداخلية أرادت بذلك تضليل الرأى العام بأنها كانت تقوم باقتحام السجن!! والسؤال الواجب طرحه هنا هو: كيف يمكن اقتحامه وشهداؤنا سقطوا فى الشوارع الكبرى وليس تحت أسوار السجن؟

إن الداخلية، خاصة قوات الأمن المركزى كانت محملة بالتعليمات والأوامر بإطلاق النار فوراً دون استعمال أى وسائل تؤدى إلى التدرج الأمنى وتحولت بورسعيد إلى ساحة قتال بين الرصاص الحى والحجارة وكانت معركة غير متكافئة ذهب ضحيتها ما يزيد على 30 شهيداً فى اليوم الأول.. وعاشت المدينة ساعات سوداء، وهنا نسأل أيضاً: كيف تقاوم وتدافع عن نفسها وهى لا تملك حتى حق الدفاع عن النفس بعد أن تحولت عجلات المدرعات الثقيلة إلى سلاح يدهس المواطنين بلا شفقة أو رحمة، ثم تحولت المستشفيات إلى ساحات لعلاج مئات الجرحى الذين كانوا فى حاجة ماسة إلى دماء سريعة بعد أن سالت دماء الشباب فى شوارع المدينة.

وفى اليوم التالى تم تجهيز النعوش التى تحمل الشهداء واتجهت من مسجد مريم إلى مدافن المدينة فى جنازة لم تشهدها المدينة فى تاريخها، فقد خرجت المدينة بأكملها شبابها ورجالها ونساءها حتى أطفالها.. وقبل أن تقترب الجنازة وهى تحمل عشرات الشهداء من المقابر، كانت قنابل الغاز المسيلة للدموع تسبقها طلقات الرصاص الحى وتخترق مهابة الجنازة، وأصبحت جثامين الشهداء تفترش الأرض بعد أن واجه المشيعين سيل القنابل والرصاص، ولكن حمل المشيعون الجثامين وأصبحت الدموع تسيل بغزارة من عيون الرجال وانهمر الشباب يبكى بعد أن ارتفعت درجة الاحتقان، وهنا سارت الجنازة مرة أخرى تتحدى الموت وداخل المقابر تم دفن الشهداء وعادت الجماهير الغاضبة تحمل على أكتافها الشهداء الجدد والمصابين وارتفع عدد الشهداء إلى ما يقرب من 40 وأكثر من 270 جريحاً وتحولت المدينة إلى مستشفى عام كلها بشوارعها تحولت إلى العلاج وإعداد الشهداء للدفن فى اليوم التالى!!

وبعد ذلك أصبحت المدينة تواجه بكاملها وبكل فئاتها وطبقاتها تقاوم من أجل البقاء بعد أن شعرت أن هناك ما يحاول أن يخنقها ويقتلها.. واستعادت المدينة تاريخها وأخذت تهتف من أعماقها بحياة الآباء والأجداد.. وكانت الصدمة قوية عندما أعلن رئيس الجمهورية حالة الطوارئ وفرض حظر التجوال.. ولأول مرة فى التاريخ تبدأ المدينة نزولاً فى الشوارع من ساعة فرض حظر التجوال ولأول مرة تصبح بورسعيد فى الشوارع والحوارى متحدية حظر التجوال واستمر حتى الصباح.. فى اليوم التالى انضم إلى الشهداء المزيد منهم وحتى هذه اللحظة.. بل وحتى الآن لن يخرج علينا مسئول واحد بتصريح حتى وإن كان تافهاً! وتركت المدينة تشعر بأنها تعاقب جماعياً وارتفعت درجة الاحتقان حتى تحولت المدينة إلى حالة من الغليان لا يمكن تلافيها.. وجاء المدد سريعاً وتحول الشعب المصرى لمناصرة أهم المدن والتى تحمل تاريخاً وشعر أبناء المدينة بالارتياح الشديد وهم يرون ويسمعون المظاهرات الصاخبة التى خرجت تؤيدهم وتدافع عنهم.

وكانت الأحداث تتوالى فى مدينتى السويس والإسماعيلية وأصبحت مدن القناة الثلاث مدينة واحدة وخطاً واحداً يشعر بأن كرامته قد حافظ عليها.

وهنا كان مكمن الخطر لماذا مدن القناة الثلاث؟.. لقد ترددت فى الأيام الأخيرة نوايا حكومية بطرح الصكوك الإسلامية وكانت هناك أفكار بطرح ضفاف القناة للاستثمار بل إن مياه القناة نفسها أصبحت تثير شكوكنا.. لقد كانت قناة السويس هى الرمز الوطنى للشعب المصرى وهنا تحركت الجماهير الغاضبة إلى جماهير مقاتلة يتقدمها الشباب مضحياً بكل ما يملك حتى الحياة.

وحتى الآن تعيش المدينة فى صمت تنتظر ما يخبأ لها والأكيد هى تعد العدة للدفاع عن نفسها.. ومازالت دماء الشهداء والمصابين دون استرداد لحقوقها.. إننا نطالب بمحاسبة سياسية لعزل وزير الداخلية وقيادات الأمن المركزى التى أطلقت علينا الرصاص وأيضاً نريد تحقيقاً قضائياً وليس أمنياً بعيداً عن الشكوك والشبهات من أجهزة الأمن.. ونريد اعتذاراً رسمياً لما لحق بالمدينة من انهيار اقتصادى واجتماعى.

وأيضاً الاعتراف رسمياً بحقوق الشهداء والمصابين.. إن بورسعيد مازالت هى المدينة الباسلة دافعت عن الشعب المصرى عبر تاريخها وهذا الشعب الآن يحتضنها ويدافع عنها لذلك ستبقى بورسعيد دائماً كما كانت شوكة فى ظهر الاستعمار ستبقى أيضاً شوكة فى ظهر الهمجية والتخلف.. إن السؤال الآن من أطلق علينا الرصاص؟ لا نريد خداعاً أو تضليلاً، حيث لنا مائة ألف عين رأت من القاتل.

ومن الذى أسال دماءنا؟ ولن تذهب هذه الدماء هباءً بل سوف تعيد المدينة حقوق شهدائها ومصابيها مهما كان الثمن، فقد سبق وأن دفعنا الثمن عدة مرات.

■ رئيس اتحاد أصحاب المعاشات