رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الوليمة..

جريدة الدستور

لم تهدأ حركة زوجى ولم يكف عن الدوران فى أركان البيت الصغير!

أعرف الأحزان التى تحفر على جبينه المقطب علامات التجهم والأسى بعدما أنفق آخر قرش من مرتبه لتلبية مصاريف الوليمة..

لم يكن مضطرا لها. لكنه وجد نفسه مدفوعا للمجاملة. ووجد قبولا سهلا من ضيوفها!

يدخل المطبخ على غير عادته ويزرع قدميه على غير هدى.. يكوم أصابعه.. ينفخ فيها وينظر يمينا ويسارا كمن يبحث عن ملاذ أو عن معطف يمنحه دفئا رغم حرارة الصيف..

طلبت منه أن يبقى معى.. يساعدنى فى التقشير والتقطيع على أنغام المذياع المعلق على الجدران لنستمع إلى موسيقى أو أغان.. كنت أتعمد صرفه عن التفكير فى الأزمة المالية التى تعتصره، وأخفف عنه وطأة الهم بسبب تلك الوليمة المفاجئة.

أطلق من صدره تنهيدة أفرغته من هدوئه وتماسكه قائلا:

- لم يبق معى نقود بالمرة. تكاليف الوليمة كان يمكنها أن تعبر بنا الأيام المتبقية من الشهر..

تساءل بعينين لائذتين إلى الأرض.. كيف أدبّر مصاريف الطعام للأولاد قبل مجىء الشهر الجديد براتبى الحقير؟

رجوته وأنا أمد يدى لالتقاط كيس الملح من الرف العلوى أن يزيل العبوس عن وجهه بعدما وقعت «الفاس فى الراس» وأصبحت الوليمة أمرا محتوما..

امتلأ غيظا حين رآنى أكتشف أن الكيس خال تماما من الملح!

لم يتكلم.. فغر فاه وهو يضع يديه فى جيوبه ويخرجها مقلوبة خاوية..

لمعت عيناه.. فأدار وجهه ناحية الباب..

تجاهلت النظر إلى دموعه المنسابة لأتيح له التماسك. ولأبعد عن رجولته شبح الانكسار والمذلة.. أسرعت إلى الجارة استعير منها بعض الملح. ولفظتُ من تفكيرى كابوس الفواكه والحلويات. حدثتنى نفسى أن كوب الشاى يمكن أن يملأ وقت التسامر معهم بعد الوليمة.

انسلت من ثغره ابتسامة خافتة، ومن عيونه بارقة أمل، حينما أكدت له أن الله سيبارك فى الطعام، وأن الزائد منه سيكفينا للأيام المتبقية من الشهر، بعد وضعه فى الثلاجة، وإنفاقه بطريقة حكيمة.

اقترب موعدنا معهم.. وبينما انشغالًا بترتيب المائدة.. ربتَ على كتفى ووعد بأن يتظاهر أمامهم بأنه يتناول الطعام. ودلف إلى غرفة أطفالنا يستدرجهم للنوم قبل مجىء الضيوف..

بعد وقت غير طويل تحلقنا مع الضيوف حول المائدة.. التقت عيوننا وتبادلنا الابتسام خلسة. هز رأسه قبالتى كأنه يؤكد أن الله بارك فعلا فى المائدة بعدما أوشك الضيوف على الانتهاء وبقى طعام كثير..

قال لى مداعبا على مسمع منهم وعلامات الرضا بادية عليه.. كم هو شهى طعامك يا حبيبتى!

نهضنا لتوديعهم عند الباب..

حاولنا أن نبتسم وأن نصافحهم.. لم نقدر.. اكتفينا بالتلويح.. وأوماؤا برءوسهم..

كانت أيديهم مشغولة بحمل الأوانى المملوءة بالطعام الفائض لأطفالهم!..