رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

التفاتة أخيرة

محمد ابراهيم طه
محمد ابراهيم طه

لمْ أعرف فيم كنت مشغولا حين اعترض الصغير طريقى وباغتنى بالهاتف، مشيرًا إلى أن أضغط هنا، ثم أسرع للجلوس على أريكة خشبية. الطلب كان بسيطا، فاتخذتُ دون أن أفكر وضع التصوير، لكننى ما إن ضبطتُ الكادر حتى رأيته إلى جوار امرأة، ما جعلنى أحجم عن الضغط لولا أنها ابتسمت، فرجعتُ خطوتين للخلف وضبطتُ الكادر ليضم شخصين يبتسمان، ولم يكن علىَّ سوى الإمساك بالهاتف والتقاط صورة، لولد رشيق بجلباب أبيض مكوى بجوار امرأة ممتلئة قليلاً بعباءة فوشيا جديدة ربما أو أول غسلة.

أشرتُ لهما وأنا أحدق فى الكادر أن يفترقا قليلا، وكانت العباءة منزلية أكثر منها عباءة خروج، وحين التقطتُ الصورة بدا أنهما فهما إشارتى بالعكس، فقد أحاطها بساعديه ودفن وجهه فى وجهها كأنه يقبلها فيما خمنتُ أنها التى أخذته إلى صدرها، حتى إن ظلال الكشكشة وارتفاع الياقة من أثر الضمة أفسدا اللقطة التى لم يبق منها سوى ابتسامة بريئة تشى بسعادة غير محدودة وفرح لم أتبين مصدره، ولاح لى أنهما يقتنيان لأول مرة هاتفا بكاميرا وأنهما لم يتخلصا بعد من إحساس اللقطة الوحيدة التى لن تتكرر كأنها فرصة أخيرة، فاقتربا أكثر مما يجب واحتشدا، لتخرج الصورة هكذا كما توقعتُ مخيبة للآمال، وقد هالنى أن يكونا كمن يقف لأول مرة أمام كاميرا، فيما الجميع تخلصوا منذ فترة بفضل هذه الهواتف من ذلك الشعور، وصاروا لا يجيدون الوقوف أمام الكاميرات واتخاذ أوضاع جاذبة ورقيقة فحسب، بل يحرصون على تكرارها كل يوم، وفى أى مكان.

وأنا أسترجع اللقطة من الحافظة، وجدتُ ثلاث محاولات سابقة فى أرشيف الصور؛ واحدة لبونسيانا بورود حمراء تمكنتُ أن أحدد أنها الشجرة التى خلف الأريكة الخشبية، ومن التاريخ المدون عرفت أنهما كانا يجربان الكاميرا، فقد حاول أن يلتقط لها صورتين قبل أن يعترض طريقى، فى الأولى كانت خجولة، تزم شفتيها أكثر من اللازم، وتتقى بكفيها شيئا وهميا كأنها تتعرض لهذا الموقف لأول مرة، ومترددة فى الثانية، تبتسم فى خجل وتضم ساعديها على صدرها لتقلل من نفورهما ربما أو تدارى عباءة أقرب إلى أن تكون منزلية. كلتا الصورتين غير واضحتين باستثناء صورة الشجرة، ما جعلنى أجزم أنهما اشتريا الهاتف للتو.

أطلعتُهما على الصورة، فانبهرت، وبان من ملامح وجهها المستدير أنها غير مصدقة أنهما بهذه الروعة، لكننى نصحتهما بالابتعاد قليلا حتى يتسنى لهما الحصول على صورة أفضل، وطلبتُ أن يتخففا من التوتر ويستندا أكثر على ظهر الأريكة، ثم يتجها بوجهيهما نحو الشمس، وأن يحتفظا بذات الابتسامة ويميلا برأسيهما قليلا هكذا، ثم رجعت إلى الخلف، وأخذت اللقطة. كان الهاتف من النوع الرخيص، ونقاء الصورة والألوان غير جيدين، لكننى تمكنت بضوء الشمس ولون «البونسيانا» والعباءة الفوشيا والجلباب الأبيض من التقاط أكثر من لقطة كانت ابتسامتهما فيها أكثر صفاء، وقد تحررت فيها قليلا من الخجل، وخففت من ضغطة الساعدين، وانطلق صدرها حتى أوشك على ملامسة حدود الكادر.

أريتها لهما، فقالت بصوت منشرح «حلوة قوى»، لكننى قلت: «لسه!» وطلبت منهما أن يلتزما بتعليماتى ولا يعبآن بوجودى، فاتسعت عيناها من الدهشة، ولم تعد تجفل وأنا أشد حافة العباءة بحذر فى البداية حتى أخفف من «الكرمشات» الكبيرة، ثم أقل تحفظا حين ضغطتُ كتفيها كى تستريحا ولا ترتفعا لأعلى، ثم أكثر امتثالا وأنا أثبت رأسه ليستريح على عنقها الأبيض ولا تخفيه فى ذات الوقت، وكانت الابتسامة أكثر إشراقا وهما يحدقان فى شمس الضحى، وقد زال توتر اللقطات الأولى، ولاح لى من اللقطات التالية التى كانت أكثر تلقائية وأقل تكلفا أنهما وحيدان، وأنها نذرت نفسها له، وحين أريتها لهما صرخت من الإعجاب، وكان صوتها حقيقيا، وطبيعيا ومندهشا، حتى إنها لاحظت انتباهى، فعاد إلىّ الانخفاض وبانت علامات الامتنان فى عينيها، وعادت لتتأملها أكثر من مرة، ومن أكثر من زاوية، وقد لمحت أنها تركز على ما حرصتُ على إظهاره، وأن آهات الاستحسان التى ندت عنها كانت لوضعها هى أكثر مما كانت لوجه الولد الذى بدأ يتخذ أهمية أقل فى اللقطات التالية تلك التى حرصتُ فيها على أن يكون صدرها خلابا ترجع روعته إلى أنها لم تكن ترتدى حمالات صدر مجسمة تمنحه ذلك القوام الصلب المشدود، بلكارينا «سوفت»، لا تضغطه ولا تتركه مهلهلا، بل مستريحا بلا تحفظ فى قوام أقرب إلى الطبيعى يليق بامرأة كاملة الأنوثة، تجاوزت الثلاثين بقليل، أم لولد فى حدود العاشرة، ربما يكون وحيدا، وربما تكون نتيجته ظهرت اليوم وطلب منها الهاتف كهدية نجاحه، فالكيس الذى ظهر إلى جوارها فى الصور قبل أن أنبهها إلى إزاحته قليلا فى اللقطات التالية ليخرج من الكادر كان مطبوعا عليه اسم المحل، ويحتوى بالتأكيد على العلبة والشاحن وسماعات الأذن، وأنا أنوى أن يقتصر الكادر فى اللقطات التالية على صبى وأمه على أريكة بلا مرجعية أكثر من كونها أريكة خشبية فى حديقة عامة، الجلوس فيها بلا مقابل، وبدا أننى لن أتوقف عن ضغط الزر.

فى اللقطة التى حملت على عداد الصور الرقم خمسين، كانت وحدها برغم رداءة الهاتف وضعف الكاميرا فى الكادر، خالدة وعظيمة، فى عباءة فوشيا، برقبة بيضاء ملفوفة، تقف وحدها فى مساحة خضراء، تنظر بعينين واسعتين كأنهما تستوعبان الكاميرا فى الخلف بونسيانا بزهور حمراء، وتبتسم بلا أى تحفظ، وتعطى للكاميرا صدرا شامخا خلف عباءة فوشيا منسجمة مع طولها المناسب ووزنها الذى لم يتجاوز بأى حال خمسة وستين كيلو، رغم أنها كانت توحى فى جلوسها بأنها أثقل من ذلك.

لا أعرف ما الذى كان يشغلنى حين انقضَّ علىَّ الولد وأعطانى الهاتف وجرى ليجلس بجوار امرأة على أريكة لألتقط لهما صورة، فإذا بى ألتقط لهما سبعا وأربعين صورة، ولم أعرف ما الذى كان يشغلها وهى تنظر إلى صورتها الوحيدة وهى واقفة فى شموخ أمام شجرة بونسيانا، متحررة من أى توتر، وخالية من أى هم وهى تبتسم كبقرة مترعة بالصحة والجمال، ولم أعرف ما الذى كان يشغل بال الولد حين نظر إلى الصورة رقم خمسين، ثم أخذ الموبايل، وضغط كتفها وسارا وهو يرفع كفيه شكرا بينما تلتفت إلى الخلف، ولم أستطع أن أسجل تلك النظرة التى كانت تنظر بها نحوى وهى تسير إلى جواره وقد انصاعت لأوامره.