رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

4 حكايات لم يروها «هيكل»

 محمد حسنين هيكل
محمد حسنين هيكل

احتفالا بالذكرى السنوية الأولى لرحيل الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل، تنشر «الدستور» الفصل السادس من كتاب "أحاديث برقاش.. هيكل بلا حواجز"، للكاتب الصحفي عبد الله السناوي أحد أصدقاء الراحل المقربين.
ويكشف هذا الجزء عن تفاصيل 4 حكايات لهيكل مع توفيق الحكيم وطه حسين وأم كلثوم وعبد الوهاب، لم يكشف عنها الكاتب الكبير في كتاباته، منشغلا بالواقع السياسي وتطورات الأحداث.
خلف كل صورة قصة، وفى بعض القصص مناطق مجهولة لم يتطرق إليها.
قصته مع «توفيق الحكيم» مثيرة بذاتها، وأحيانا بدورسها.
فى منتصف ستينيات القرن الماضى سأله «الحكيم» أن يبدى رأيه فى مقال انتهى من كتابته للتو، ومقالاته تمزج ما بين الأدب ونقده والحياة وتأملاتها.
فاجأه السؤال لكنه أجاب على الفور: «يا أستاذ توفيق أنا أقرأ ما تكتب كأى قارئ آخر، أرسله إلى المطبعة أيا ما كتبت ولا تراجع أحدا».. وفى يقينه قاعدة استقرت: «عندما يكون لصاحب الرأى تجربة عريضة واسمه يزكيه فهو وحده من يتحمل مسئوليته أمام الرأى العام ولا شأن لأى رئيس تحرير بما يكتب».
ألح عليه رائد المسرح العربى، وصاحب رواية «عودة الروح»، التى ألهمت «جمال عبدالناصر» وجيله فى مطالع الشباب، أن يقرأ ما كتب وأن يسمع ملاحظاته عليه.
لم يكد يطالع النص ويشرع فى القول: «هناك بعض ملاحظات» حتى استوقفه «الحكيم» طالبا إعادة المقال إليه ومزقه بلا تردد ملقيا أوراقه فى سلة مهملات.
لم يكن «الحكيم» مستريحا لما كتب واستبد به قلقه.. أراد أن يتأكد بنظرة أخرى يطمئن إليها أن أسبابه فى محلها.
القلق من طبائع الإبداع، فما هو رتيب ومألوف ومتوقع لا يلهم إبداعا يبقى، أو يفضى إلى رؤية تختلف.
فى القلق سعى إلى شىء من الكمال لا يُدرك لكنه يُطلب.
كان هو نفسه ذات الرجل.
«تقول لى إن تاريخى يشفع أمام مشاهدى لكن التاريخ وحده لا يقنع أحدا بأنه يسمع ما يستحق الاستماع إليه، وإن لم يكن الكلام مقنعا فسوف يكون من العبث أن تذكر الناس بالتاريخ».
«فى كل مرة تكتب على ورق، أو تطل على شاشة، لا بد أن يكون لديك شىء جديد تقوله لا يكرر ما اجتهد فيه غيرك».
فى مسرحية «الحكيم» «بنك القلق» شىء من شخصية ونوازع المثقفين والفنانين الكبار.
تلك النوازع تملكت سيدة الغناء العربى «أم كلثوم»، وجلال صوتها يهز الوجدان العربى من محيطه إلى خليجه، حتى تكاد أن تهوى من فرط قلقها قبل أن تقف على خشبة المسرح، كأنها تدخل اختبارا جديدا قد تخفق فيه، أو كأنها تعلمت للتو أبجديات الغناء، لكنها ما أن تبدأ فى الشدو فهى ملكة على عرشها.
باستثناء إشارات عابرة لـ«أم كلثوم» فإنه لم يكتب، أو يروِ عنها بقدر ما اقترب منها.
إذا جاز لى أن أحدد فنانا باسمه هو الأقرب إليه فإنها «أم كلثوم»، ولا أحد آخر قبلها.
كان رأيه أن فيها «شهامة أهل الريف»، بينما لم يحظ الموسيقار «محمد عبدالوهاب» بنفس المكانة ففيه «براجماتية الحارة الشعبية».
عندما كانت تزور سيدة الغناء العربى السيدة «تحية عبدالناصر» ويتصادف أن يراها الرئيس، كان يدعوها للغناء بمقاطع يحفظها، ويدندن خلفها، وكان من عادته أن يغنى لـ«عبدالوهاب» كلما سنحت فرصة للاختلاء بنفسه.
قلت: «لكنك لم تشر أبدا إلى وصلات الغناء المشتركة بين عبدالناصر وأم كلثوم، رغم أنها بدلالاتها الإنسانية أكثر أهمية من بعض القصص السياسية؟».
قال: «لا تقل لى ذلك، فأنا متأكد بالخبرة والتجربة من أهمية تلك القصص فى كشف ما غمض من جوانب خفية لرجال التاريخ».
«دعها لى فسوف أكشف عنها فى الحوارات التليفزيونية المقبلة».
غير أن الشواغل السياسية الضاغطة أخذته بعيدا عن تلك الإشارة الإنسانية الموحية.
كان حديثه عن «أم كلثوم» دافئا، فيما لم يكن متحمسا لـ«عبدالوهاب»، يعرف قدره الفنى لكن طباعه الشخصية لا توافقه.
عندما شاع فى منتصف السبعينيات أن قرارا جمهوريا يوشك أن يسند منصب نائب رئيس الوزراء لـ«هيكل»، اتصل به «عبدالوهاب» قائلا: «نهنئ أنفسنا يا أستاذنا».
رد «هيكل»: «لكنى اعتذرت».
.. ولم يتصل مرة أخرى.
سألته: «لماذا غاب عن الدور السادس فى الأهرام عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين؟».
«إن الجو فى مكتبة الدكتور طه حسين غريب مثير.. إن المكتبة أشبه ما تكون بصومعة.. صومعة عقل».
«غرفة لا تبين جدرانها لأن رفوف الكتب ارتفعت إلى السقف، غرفة فيها آثار أشبه ما تكون باللمسات السحرية. تمثال هنا للدكتور طه حسين.. وتمثال على الناحية الأخرى لملاك نشر أجنحته ولكنه بلا رأس.. رأسه مكسور!».
«فى وسط ذلك كله.. جلس على مقعد كبير الرجل الذى مزق حجب الظلام الكثيفة المحيطة به لكى يستقبل النور الخالد.. ويعكسه إلى الملايين بعد أن يضفى عليه شيئا آخر.. شيئا من ذات نفسه!».
هكذا كتب عنه فى أول يومياته عام (١٩٥٥) بصحيفة «أخبار اليوم».
بعد سنوات سأله أن يأخذ موقعه على رأس كبار المفكرين والمثقفين والأدباء فى «الأهرام».
قال الدكتور «طه»: «لماذا.. وأنت عندك الأخ توفيق؟».
عندما وصلت إلى مسامع «توفيق الحكيم» قصة ذلك اللقاء سأل «هيكل«: «لماذا لم تبلغنى؟».
ــ «بأية صفة؟!».
أجابه «الحكيم»: «بصفتى رئيس الدور السادس».
كان عميد الأدب العربى يدرك حساسيات كبار المثقفين فهو كبير وهم كبار، فنأى بنفسه عن أية منازعات من هذا النوع.
بالنسبة لـ«هيكل» «طه حسين» أستاذ ملهم، و«الحكيم» صديق مقرب.
وقد كان «طه حسين» أول من استخدم كلمة «ثورة» لوصف ما حدث فى (٢٣) يوليو.
و«توفيق الحكيم» أول من هاجمها فى «عودة الوعى» بعد رحيل «عبدالناصر».
غير أن قيمة الأدباء لا تحددها مواقفهم السياسية المتغيرة وإن كانت تضفى، أو تسحب، من أوزانهم العامة.