رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ «3-2»




ذكرنا فى المقال السابق بعض أوجه ومعان عظيمة من الآية الكريمة «إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ». وهنا أقول إن هذا القول المطلق لا يقيده شىء غير القرآن أو السنة الصحيحة. وأتساءل هنا لماذا يلجأ بعضهم- وخصوصا ممن يتسلفون- فيتشددون ويكفرون ويذبحون الناس أو يدخلونهم إلى النار بأحكام من عندهم ما أنزل الله بها من سلطان. ويشوهون بذلك صورة الإسلام نفسه.



أقول لهؤلاء وأذكرهم بقول ابن تيمية، رحمه الله تعالى، فى «مجموع الفتاوى»، وهو من مراجعهم وكلامه كلام نفيس، لعل هؤلاء يفهمون هذا القول فيردعهم حتى يعودوا الى الصواب، وهم ليسوا بحاسبين، ولعلهم يفقهون قول الله تعالى «ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ»، ومن ثم يكون حكمهم بإدخال الناس الجنة أو النار حكما خاطئا بكل تأكيد.

يقول ابن تيمية، رحمه الله تعالى، فى «مجموع الفتاوى» 10/45: إن الله قد بين بنصوص معروفة أن الحسنات يذهبن السيئات، وأن من يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره، وأنه «تعالى» يجيب دعوة الداعى إذا دعاه، وأن مصائب الدنيا تكفر الذنوب، وأنه يقبل شفاعة النبى صلى الله عليه وسلم فى أهل الكبائر، وأنه لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء. كما بين أن الصدقة يبطلها المن والأذى، وأن الربا يبطل العمل، وأنه إنما يتقبل الله من المتقين، أى فى ذلك العمل ونحو ذلك، فجعل السيئات ما يوجب رفع عقابها، كما جعل للحسنات ما قد يبطل ثوابها، لكن ليس شىء يبطل جميع السيئات إلا التوبة، كما أنه ليس شيء يبطل جميع الحسنات إلا الردة. مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية 12 / 483.. كما جاء فى المرجع المهم «التسهيل لعلوم التنزيل» لابن جزى.

وقد قال ابن تيمية كذلك: « لفظ الحسنات والسيئات فى كتاب الله يتناول هذا وهذا. قال الله تعالى عن المنافقين» إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا». وقال تعالى: «إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ وَيَتَوَلَّوا وَّهُمْ فَرِحُونَ»، وقال تعالى: «وَبَلَوْنَاهُم بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ»، وقال تعالى: «وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ»، وقال تعالى فى حق الكفار المتطيرين بموسى ومن معه:» فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَٰذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَىٰ وَمَن مَّعَهُ «.

ذكر الرجل هذا بعد قوله «وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ». وأما الأعمال المأمور بها والمنهى عنها ففى مثل قوله تعالى: «مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَىٰ إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ». وقوله تعالى: «إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ». وقوله تعالى: «فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا».

وهنا قال ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك، ولم يقل وما فعلت وما كسبت، كما قال وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم. وقال تعالى: «فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيْدُ اللهُ أَنْ يُصِيْبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوْبِهِمْ». وقال تعالى: «قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا». وقال تعالى: «وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِّن دَارِهِمْ». وقال تعالى «فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ». وقال تعالى: «وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ». فلهذا كان قول ما أصابك من حسنة ومن سيئة متناول لما يصيب الإنسان ويأتيه من النعم التى تسره ومن المصائب التى تسوءه. فالآية متناولة لهذا قطعا وكذلك قال عامة المفسرين.

أما الفخر الرازى فقال عند قوله تعالى: «إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيّئَاتِ» يدل على أن الحسنة إنما كانت مذهبة للسيئة لكونها حسنة على ما ثبت فى أصول الفقه، فوجب بحكم هذا الإيماء أن تكون كل حسنة مذهبة لكل سيئة.

ثم يقول فأما قوله تعالى: «مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا»، ثم إنه تعالى زاد على العشرة فقال: «كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِى كُلّ سُنبُلَةٍ مّاْئَةُ حَبَّةٍ ثم زاد عليه فقال وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء».

وأما فى جانب السيئة فقال تعالى: «وَمَن جَاء بِالسَّيّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا». وهذا فى غاية الدلالة على أن جانب الحسنة راجح عند الله تعالى على جانب السيئة. كما أنه تعالى قال فى آية الوعد فى سورة النساء «وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله...» فقوله «وَعْدَ اللَّهِ حَقّا» إنما ذكره للتأكيد ولم يقل فى شىء من المواضع وعيد الله حقاً. أما قوله تعالى «مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَىَّ» الآية يتناول الوعد والوعيد ثم قوله تعالى «وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَّحِيماً وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً». والاستغفار طلب المغفرة وهو غير التوبة، فصرح ههنا بأنه سواء تاب أو لم يتب فإذا استغفر غفر الله له ولم يقل ومن يكسب إثماً فإنه يجد الله معذباً معاقباً، بل قال «فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ»، فدل هذا على أن جانب الحسنة راجح، ونظيره قوله تعالى: «إِنْ أَحْسَنتُمْ، أَحْسَنتُمْ لأنفسكم وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا».

ولم يقل وإن أسأتم، أسأتم لها، فكأنه تعالى أظهر إحسانه بأن أعاده مرتين وستر عليه إساءته بأن لم يذكرها إلا مرة واحدة. وكل ذلك يدل على أن جانب الحسنة راجح. ثم قال: إنا قد دللنا على أن قوله تعالى «وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلك لِمَن يَشَاء» لا يتناول العفو عن صاحب الكبيرة. وللحديث صلة.. وبالله التوفيق.