رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

والله طيب .. يا حمص أخضر


الآن.. يتم استدعاء جمال فهمى وآخرين للمحاكمة بالتهمة القديمة جدا ذاتها «إهانة الرئيس»، فلا يبقى لنا إلا أن نغنى ما غنته الجموع لحمص أخضر «والله طيب يا زمان الخلطبيط .. الأصايل يبقوا فى آخر الزمر طيط.. واللى كانت هردبيسة وبزرميط .. طالعة فى العالى واحنا فى الغويط».

أحيانا نسمع عبارة «حمص أخضر» فلا تصل ذاكرتنا لأبعد من أوبريت «العشرة الطيبة» لخالد الذكر سيد درويش، وكان نجيب الريحانى هو الذى بادر بالفكرة حين عثر على رواية فرنسية بعنوان «ذو اللحية الزرقاء» فكلف محمد تيمور بتعريبها وبديع خيرى بكتابة أزجالها والشيخ سيد بتلحينها وعزيز عيد بإخراجها، وأنتجها الريحانى على حسابه وكلفته بأسعار 1920 ثلاثة آلاف جنيه كاملة! فى الأوبريت سنجد شخصية «حاجى بابا حمص أخضر» المملوك الغاشم الذى يتخلص من زوجاته الواحدة بعد الأخرى بدس السم لهن، وقام بدوره استيفان روستى الذى ولد لأب نمساوى وأم إيطالية وقضى حياته فى شبرا. ويسخر الأوبريت من غباوة الأمير حمص أخضر وينتهى بالانتصار عليه وغناء الجميع «لازم نكيدك يا حمص أخضر .. دى العبودية خلص زمانها .. والحرية ح يئون أوانها»!. لكن حكاية حمص أخضر والاستهزاء به تمتد فى تاريخ مصر السياسى أبعد من تاريخها الفنى. وتحديدا إلى منتصف القرن 14 حين عين السلطان شهاب الدين الأمير قشتمر نائبا للسلطنة، فطغى قشتمر وبغى. لكن المصريين الذين قد لا تكفيهم الأسلحة لخلع الطغاة مدججون دوما بالسخرية التى لا تنفد طلقاتها من عندهم.، لذلك أطلقوا على قشتمر «حمص أخضر»، كما أطلقوا على الأمير الفخرى لقب «الفول المقشر»! وقد لاحظ ابن بطوطة «1304- 1378 م» حين زار مصر تلك السمة الأصيلة فوصف المصريين بأنهم جميعا على اختلاف طبقاتهم «ذوو طرب وسرور ولهو». أتذكر تلك القصة حين أقرأ وأسمع أن الرئيس مرسى يرفع الدعاوى القضائية لمحاكمة الكاتب الزميل جمال فهمى وكيل نقابة الصحفيين، وعدد آخر من الزملاء ومنهم د. عبد الحليم قنديل بتهمة إهانة الرئيس. ذلك أن تصريحات الإخوان كلها قبل 25 يناير كانت قاطعة وواضحة بشأن عدم مشاركتهم فى الثورة، وللرئيس مرسى شخصيا – وكان مسئول لجنة الانتخابات لدى الإخوان - تصريحات لجريدة المصرى اليوم بتاريخ 25 نوفمبر2010 جاء فيها بالنص «ننسق فى دوائر مع الحزب الوطني، ولدينا تفاهمات مع الأمن، ورفضنا الدفع بمرشحين أمام عزمى، وغالى، وعلام، وأبوالنجا، احتراما لهم كرموز للوطن»!. وبينما كان مرسى يحترم دعائم نظام مبارك كرموز للوطن، كان جمال فهمى وقنديل وغيرهما يطالبون بالحرية للشعب والإطاحة بمبارك. والحاصل أن أعداء الثورة، الذين رفضوا المشاركة فيها صاروا يحكمون ويحاكمون الثوار بتهمة الإساءة للذات الرئاسية.

أما عن تهمة إهانة الرئيس، فهى الصيغة الجديدة لتهمة قديمة كان ينص عليها فى قانون العقوبات قبل ثورة يوليو وهى «العيب فى الذات الملكية»، بل ويمتد تاريخ تلك التهمة إلى ماقبل ذلك ، ففى عام 1865 كان قانون المطبوعات العثمانى المعمول به فى مصر ينص على أن «الذى يستعمل ألفاظا أو عبارات غير لائقة بحق السلطنة السنية يحبس من ستة شهور إلى ثلاث سنوات أو يؤخذ منه خمسة وعشرون ذهبا»! ثم تبلور مفهوم «العيب» قانونيا فى خضم الثورة العرابية ولمواجهتها تحديدا، ومن ثم جاء فى قانون العقوبات عام 1883 أن «كل من عاب فى حق ذات أولى الأمر يعاقب بالحبس من شهر إلى 18 شهراً ويدفع غرامة من مائة قرش ديوانى إلى ألفى قرش». وفى عام 1897 صدر أول حكم قضائى فى مصر بتهمة العيب فى الذات الخديوية فى قضية عرفت باسم «قضية السفهاء» حبس فيها أحمد فؤاد ومعه على المنفلوطى ستة أشهر، وسنة 1915 حوكم أحد المارة بتهمة العيب فى حق أولى الأمرلأنه توقف فى الشارع خلال مرور موكب السلطان حسين كامل وأخذ يصيح « يا مسهل يا رب»! ولعل القضاة قد قدروا أن قوله «يا مسهل يارب» يتضمن رغبة باطنية مكبوتة فى الخلاص من السلطان حسين ! . وعام 1924 برأت المحكمة عصام الدين حفنى من تهمة العيب فى الذات الملكية، ليس من باب العدالة القضائية، لكن لرفض المحكمة التصديق أو القبول بجواز مبدأ أن هناك من يجرؤ على إهانة الملك! ولذلك جاء فى حكمها أنه «كان من الأليق بالنيابة أن تتريث فى استنتاج هذه التهمة الشنيعة التى تكاد ألا تصدر إلا ممن به مس. إذ ليس من السهل التصديق بأن مصريا يعيب فى ذات مليكه المقدسة» ! وعام 1930 تعرض عباس العقاد لذات التهمة بسبب مقالاته فى جريدة المؤيد الجديد وقدرت المحكمة أن «العيب وإن لم يكن مسندا لحضرة صاحب الجلالة الملك صريحا فإن ذلك لا يمنعها من مؤاخذة المتهمين»!.

ومع اختمار ثورة يوليو فى ضمير الشعب زاد عدد قضايا «العيب» أمام المحاكم بشكل غير مسبوق، وكان الشاعر العظيم بيرم التونسى أحد أشهر من عابوا فى الذات الملكية بهجوم صريح على الملك فؤاد وابنته الأميرة فايقة فى قصيدة «القرع السلطانى» سخر فيها من زواجه جاء فيها «مرمر زمانى يا زمانى مرمر.. البنت ماشية من زمان تتمخطر .. والوزة من قبل الفرح مدبوحة .. والعطفة من قبل النظام مفتوحة .. ولما جت تتجوز المفضوحة .. قالوا اسكتوا خلى البنات تتستر» وبسببها تم نفى بيرم خارج مصر.

وبقيام ثورة يوليو 52 توارى مصطلح «العيب» وحل محله مصطلح آخر جديد بالمعنى نفسه وهو «إهانة الرئيس» الذى حوكم بموجبه بعض الكتاب عام 1978، ثم أعاد أنور السادات إلى الحياة صراحة قانون العيب عام 1980، وسرعان ما اختفى العيب باختفاء السادات نفسه. وخلال تلك الرحلة الطويلة من محاولة تحصين الملوك والرؤساء الذين لايجوز العيب فى «ذواتهم المقدسة» لم يتوقف أحد عند ما يفعله أولئك الرؤساء . وحين وصف الخديوى توفيق ثورة عرابى والشعب المصرى بأنها «ثورة أولاد الكلب» لم يعتبر أحد أن ذلك عيب ! وعندما قال السادات عن انتفاضة يناير 1977 إنها «انتفاضة حرامية» لم يقل له أحد إن ذلك «عيب». والآن، يتم استدعاء جمال فهمى وآخرين للمحاكمة بالتهمة القديمة جدا ذاتها «إهانة الرئيس»، فلا يبقى لنا إلا أن نغنى ما غنته الجموع لحمص أخضر «والله طيب يا زمان الخلطبيط .. الأصايل يبقوا فى آخر الزمر طيط.. واللى كانت هردبيسة وبزرميط .. طالعة فى العالى واحنا فى الغويط» ! فإذا منع علينا هذا الغناء ، سنقف فى الشارع ونقول «يا مسهل يارب»!

■ أديب وكاتب