رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الفضل ما شهد به الأعداء!


يقول المفكر الإسرائيلى آمنون روبنشتاين: إن مصر يجب ألا تكون طرفا فى الصراع العربى الإسرائيلى، إن تورط مصر الكبير فى النزاع العربى الإسرائيلى تمخض بصفة خاصة بسبب سياسة جمال عبد الناصر التى كانت تقوم على ركنين أساسيين يعوزهما الحكمة.

كان يوم ميلاد جمال عبد الناصر فرصة لمحاولة استخلاص أسلوب أو طريقة أو منهاج لمواجهة الظروف التى تمر بها مصر، لكن القدر أبى إلا أن تمر ذكرى ميلاد عبد الناصر دون حادث أليم راح ضحيته بعض شباب المجندين التابعين للأمن المركزي، وأصيب كثيرون، وكالعادة استشاط الكثيرون غضبا، وألقوا بالمسئولية على الوزارة مرة، وعلى الرئيس مرة، وعلى هيئة السكة الحديد ووزارة الصحة دائما، وتحولت القضية فى أغلب الأحوال إلى قضية سياسية، ورغم الألم فإنى أعتقد أن المحاسبة يجب أن تكون على أساس المسئولية سواء المتعمدة، أو نتيجة الإهمال، وأريد أن أقول إن تحميل المسئولية على القيادات العليا ليس مفيدا دائما، وإلا وجدنا أنفسنا وقد جردنا أنفسنا من كل الكفاءات نتيجة لأخطاء غيرهم، وهذا لا يمنع من الحساب على أسلوب التعامل مع الأخطاء. أريد أن أقول أننى أرى أن أحد أهم أسباب الحوادث الآن هى حالة الفوضى واللامبالاة السائدة من سنتين والرسالة التى يوحى بها إلينا فى ميلاده الخامس والتسعين هى الالتزام بالنظام والقانون!

وأعود لأتذكر جمال عبد الناصر فى ذكرى مولده وقد لاحظت اهتماما كبيرا به هذا العام وهو ما أستطيع أن أفهمه على أساس أننا فى أزمة، ونحتاج إلى دليل للخروج من الأزمة، وقد وجد الكثير منا مصريين وعربا أن جمال عبد الناصر هو النموذج الذى نحتاج إليه، وظهر هذا فى المقالات والاحتفالات وترديد كلماته وتكرار خطبه، واسترجاع تاريخه. وقد لاحظت فى ذلك ميلا من البعض للمبالغة حبا فى جمال عبد الناصر، وإن كان ذلك لم يمنع آخرين للنقد تحت شعارالستينيات وما أدراك ما الستينيات!

وتذكرت أن الأستاذ الكبير محمد حسنين هيكل كان قد كتب بعد وفاة جمال عبد الناصر مقالا بعنوان «عبد الناصر ليس أسطورة»، وأذكر أنه قد قوبل بانتقادات شديدة فى ذلك الوقت، بينما كنت أوافقه على رأيه، فطالما أننا رأينا جمال عبد الناصر ولمسناه وكلمناه وسمعناه، فهو ليس أسطورة، بل هو واقع، صحيح أنه نادر ضمن نوادر الكون، ولكنه قطعا ليس أسطورة، لكنى الآن وبعد أكثر من 42 سنة من وفاته أعيد التفكير فقد أصبح جمال عبد الناصر أقرب إلى الأسطورة، فبعد هذه الفترة نجد أن أكثر من ثلاثمائة مليون فرد عربى لم يستطيعوا أن يملأوا الفراغ الذى تركه، ويكفى فى هذا الصدد أن نتذكر أن ما قاله أعداؤه عنه عند وفاته، ويذكرنا بالمثل القائل بأن الفضل ما يشهد به الأعداء، وهو مكمل فى نفس الوقت أن «فى الليلة الظلماء يفتقد البدر».

علينا أن نفتش فى ما كتبه أعداؤه عنه بعد وفاته ومن هذه الأمثلة أقدم بعض الاقتباسات: مثلا نجد فى مذكرات هنرى كيسنجر- وزير الخارجية الأمريكى الأسبق- حيث نقرأ ما ترجم عنه التالى: «أنه شعر بالسعادة البالغة لنبأ وفاة الرئيس عبد الناصر لأن وجوده بسياسته الراديكالية المعادية للمصالح الأمريكية فى الشرق الأوسط كان يمثل أكبر عائق لتنفيذ الأهداف الأمريكية فى المنطقة الأهم للولايات المتحدة فى العالم»، ويحلل كيسنجر أوضاع المنطقة عقب وفاة عبد الناصر، ويصل إلى أن الوقت أصبح مناسبا للوصول لحل سلمى للصراع بين مصر وإسرائيل بشرط أن يكون هذا الحل أمريكياً، وأن يتضمن ثلاثة شروط هى:

1ـ طرد النفوذ السوفيتى من المنطقة كلها.

2- يترك مصر ضعيفة غير قادرة على التأثير بأى نفوذ على الإطلاق فى العالم العربى.

3- أن تظهر التجربة الثورية التى قادها عبد الناصر فى مظهر التجربة الفاشلة.

هل هناك مديح يمكن أن يذكر عن جمال عبد الناصر أكثر من مذكرات هنرى كيسنجر، جمال عبدالناصر منع الولايات المتحدة من تحقيق أهدافها فى المنطقة التى تعتبرها الأهم للولايات المتحدة فى العالم، وهو منع أن يكون الحل أمريكيا، ولم يسمح بترك مصر ضعيفة بل مؤثرة ولها نفوذ قوى فى العالم العربى، وتجربته لم تفشل، ولكن الولايات المتحدة تريدها أن تبدو فاشلة، وعلى الجانب الإسرائيلى يقول مناحم بيجن عن وفاة عبد الناصر «إن وفاة عبد الناصر، تعنى وفاة عدو مر، إنه كان أخطر عدو لإسرائيل. إن إسرائيل لهذا السبب لا تستطيع أن تشارك فى الحديث الذى يملأ العالم كله عن ناصر وقدراته وحنكته وزعامته، إن تعبير مناحم بيجن فى وصفه أنه عدو مر، يوضح شدة المرارة التى تركها فى حلقه وحلق أمثاله من الصهاينة، ثم إنه اعتبره أخطر عدو لإسرائيل، أى أن جمال عبد الناصر وحده كان أخطر عدو لإسرائيل أخطر من أى عربى ومن أى شخص آخر. وهو بذلك يبرر أن إسرائيل لا تستطيع أن تتحدث عن قدراته وحنكته وزعامته، إن هذا الحديث فى حد ذاته اعتراف بهذه القدرات والحنكة والزعامة.

ننتقل إلى بن جوريون وما أدراك ما بن جوريون فهو الأب الروحى والتنفيذى لإسرائيل وأول رئيس لوزرائها، وواضع استراتيجيتها، إذ يقول بن جوريون :«كان لليهود عدوان تاريخيان هما فرعون فى القديم، وهتلر فى الحديث، ولكن عبد الناصر فاق الاثنين معا فى عدائه لنا، لقد خضنا الحروب من أجل التخلص منه حتى أتى الموت وخلصنا منه». فلنتصور أن بن جوريون وهو شخصية بهذا الحجم وبهذه الأهمية يرى أن جمال عبد الناصر فاق كلا من فرعون موسى ومن هتلر وهو ما يمكن تصوره إذا تذكرنا أهمية موضوع المحرقة اليهودية المتهم فيها أدولف هتلر، ويتذكر الصراع بين سيدنا موسى عليه السلام وفرعون التى تعلمناها كلنا فى دروس التاريخ والدين، ولا يختلف حولها المسلم عن المسيحى عن اليهودى.

ويقول حاييم بارليف - رئيس الأركان الإسرائيلى الأسبق- بوفاة جمال عبد الناصر أصبح المستقبل مشرقا أمام إسرائيل وعاد العرب فرقاء كما كانوا وسيظلون باختفاء شخصيته الكاريزماتية، تصوروا أن حاييم بارليف يعتبر أن مستقبل إسرائيل لم يكن مشرقا بوجود جمال عبد الناصر أى أنه كان مظلما، وأنه استطاع أن يجمع العرب وأنهم وفقا لنبوءة بارليف سيتفرقون كما كانوا قبله بعد وفاته، وللأسف فإن هذا حدث. أى أن ملخص حديث بارليف أن جمال عبد الناصر استطاع فى حياته أن يلقى ظلالا كثيفة على مستقبل إسرائيل، واستطاع فى نفس الوقت أن يجمع العرب كما لم يستطع أحد غيره.

ويقول المفكر الإسرائيلى آمنون روبنشتاين: إن مصر يجب ألا تكون طرفا فى الصراع العربى الإسرائيلى، إن تورط مصر الكبير فى النزاع العربى الإسرائيلى تمخض بصفة خاصة بسبب سياسة جمال عبد الناصر التى كانت تقوم على ركنين أساسيين يعوزهما الحكمة هما.

1ـ إمكانية وجود وحدة عربية

2ـ معاداة الغرب

وليس بعد حديث روبنشتاين حديث، سوى أن « الفضل ما اعترفت به الأعداء»، و«فى الليلة الظلماء يفتقد البدر»، وللأسف فإن ليالينا أصبحت كلها ظلماء.

■ خبير استراتيجى