رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

داعش بين الوجود والمآل


اعتدت عندما أكتب مقالاً أو كتابًا، أن أسير بالقارئ كسائق شركات أوبر أو كريم، أقف عند الإشارات الحمراء، وأخفف السرعة عند المنعطفات، لكنى فى هذا المقال لن ألتزم كثيرًا بتعليمات المرور، فأُغلّب الإرادة على الأمر، لأن الموضوع الذى أخوض فيه يتطلب ذلك، فأنا أكتب اليوم حول لغز شديد التعقيد هو «داعش» أو ما يسمى نفسه زورًا بـ«الدولة الإسلامية».

ففى فبراير عام 1947، اتصل السكرتير الأول فى السفارة البريطانية بواشنطن «سيشل» بمساعد وزير الخارجية الأمريكى لشئون الشرق الأدنى وإفريقيا «لوى هندرسون» وطلب منه المقابلة لسبب مهم، وعند اللقاء سلم الدبلوماسى البريطانى رسالتين بهدوء إلى هندرسون، موجهتين إلى وزير الخارجية الأمريكى وقتها الجنرال «جورج مارشال».



هاتان الرسالتان تشيران إلى أن بريطانيا قررت الانسحاب من شرق القناة، وهذا قد يتيح الفرصة للشيوعية أن تتمدد نحو الشرق الأوسط، كان الخبر صادمًا للرئيس الأمريكى «هارى ترومان»، وقتها بدأت وزارة الخارجية فى التخطيط ووضع الاستراتيجية للسياسة المستقبلية فى الشرق الأوسط، ونتيجة للعصف الذهنى الذى عقد فى الخارجية الأمريكية، تقرر ضمن ما تقرر أن تصنع الولايات المتحدة عدوها بنفسها كى تسيطر عليه، فقررت إنشاء أحزاب شيوعية فى العالم العربى وصناعة رؤساء ينتمون إليها، فكلفت قسطنطين زريق الأستاذ بالجامعة الأمريكية بذلك، وتأسيس أحزاب شيوعية عربية على الطريقة الأمريكية لتخطف الأضواء من الشيوعيين السوفييت، فأسس جماعة العروة الوثقى، ثم حولها إلى القوميين العرب، ثم ظهر جورج حبش ونايف حواتمة وأسسا تنظيمهما.

وقد اعترف أمامنا قسطنطين زريق ضمنًا فى عشاء عام 1983 بمنزل الدكتور إبراهيم عويس بواشنطن، وكنت أنا الذى أحاوره. تطورت هذه السياسة إلى ما عرف اليوم بـ«الفوضى الخلاقة»، أما على صعيد الحكومات فكان أول انقلاب جرى فى سوريا وجاء حسنى الزعيم، ومن يومها بدأت أمريكا فى صناعة الزعماء.

بعد احتلال بغداد عام 2004 م، دعيت لمؤتمر فى سوريا بعنوان «اللقاء الأول للاجتهاد الفقهى وضوابطه»، وقد أقيم هذا اللقاء فى دمشق بدعوة من رابطة العالم الإسلامى وإدارة الإفتاء فى سوريا واستقبلنا يومها الشيخ أحمد كفتارو، وكان ضمن الحضور الشيخ يوسف القرضاوى، والدكتور أحمد عمر هاشم وغيرهما من العلماء والمفكرين الإسلاميين.

خلال المؤتمر التقينا بالرئيس بشار ونائبه المشارقة، ووزير الدفاع مصطفى طلاس، وأحمد جبريل، وفى كل لقاء كانوا يحرضون المشايخ على تشجيع الشباب وإخراج الأمريكيين من العراق، بعدها تدافع الجهاديون من أنحاء العالم الإسلامى على سوريا للتدريب، والدخول إلى شمال العراق، والانضمام إلى «تنظيم التوحيد والجهاد» وأحداث التفجيرات فى المناطق السنية ضد الأمريكيين، كما صدرت الأوامر من إيران لحلفائها الشيعة جنوب العراق بالتحالف مع القوات الأمريكية، كى يسيطروا على العراق بعد الانسحاب الأمريكى.

استطاعت القوات الأمريكية إلقاء القبض على بعض القيادات من الإرهابيين، وأودعوا فى سجنى «أبو غريب» و«بوكا»، وهما من معسكرات الاعتقال، فسجن أبوغريب كان قريبًا من مدينة أبوغريب وبسبب الاحتجاج من سوء معاملة السجناء نقلوا إلى سجن «بوكا» بمدينة أم قصر، وبلغ عدد السجناء حوالى 20 ألف سجين وكان من بينهم أبوبكر البغدادى، الذى كان يحدث السجناء فى مسائل الدين وأصبح يتعاون مع الأمريكيين فى تهدئة السجناء ونصحهم، بعدها أطلق سراح أبوبكر البغدادى وهو محمل بآلاف الدولارات، وعاد للانضمام إلى الزرقاوى، وكان يعمل رئيسا لمجلس الشورى، كما أن الزرقاوى قد أعلن تبعيته للقاعدة بعد أن طلب منه أسامة بن لادن أن يعلن ذلك، فأصبح قائد قاعدة الجهاد فى بلاد الرافدين بعد أن كانت تسمى جماعة «التوحيد والجهاد».

قتلت الولايات المتحدة الأمريكية أبومصعب الزرقاوى فى غارة جوية فى بعقوبة، وتولى البغدادى رئاسة جماعة أبى مصعب الزرقاوى وجرى الاتصال بينه وبين الذين أقصاهم النظام من البعثيين من ضباط وإعلاميين وعلماء وباحثين، فوجد أنه قد أصبح زعيماً فقرر فك الارتباط عن القاعدة، وأن يتحول إلى الخلافة الإسلامية لاستقطاب الإسلام السياسى، ويحقق أحلام المسلمين الذين أسفوا على سقوط الخلافة.

أطلق إبراهيم عواد على البديرى اسمه الجديد «أبوبكر البغدادى الحسنى القرشى»، واتخذ من الرقة عاصمة له، وهى المدينة التى كانت عاصمة لهارون الرشيد، بعد أن دمرها المغول عام 656 هـ واتخذ من العنف والتوحش إرهابًا للمعارضين له، أما اسمه الجديد فنسب نفسه إلى قريش وإلى آل البيت لأن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «الخلافة فى قريش» وما علم أن الخلفاء هم الأربعة أبوبكر وعمر وعثمان وعلى ولا خلافة بعدهم سار بذلك على خطى جهيمان الذى اعتدى على الحرم المكى.

بعد ذلك هجم البغدادى على العراق فاحتل ثلثها، وسوريا فاحتل ثلثًا منها، فى مفاجأة أذهلت العالم، وشكل دولة على ما احتل من المدن والأراضى، لهذا قال الرئيس دونالد ترامب متهمًا الرئيس باراك أوباما إن حكومته هى التى أوجدت داعش، وإن صح ذلك فإن الولايات المتحدة لن تكون مسئولة عن أخطاء «داعش» فقد جيشت الحلفاء ضد التنظيم، وأدرجت البغدادى ضمن المطلوبين الخطرين ووضعت مكافأة لمن يقبض عليه قبل تأسيس «داعش» وذلك عام 2013، واليوم أصبحت تقوم بدور البلطجى، تعطيها بعض الدول المال والسلاح وتسهل لها الطرق، وتطلب منها عدم الضرب داخل حدودها مثل إيران، وتساومها بعض الدول بمهاجمة دول أخرى، لهذا تظل «داعش» لغزًا كبيرًا.

لقد حولت «داعش» الإرهاب من تنظيم فردى كالقاعدة يقوده فرد، إلى دولة مؤسسات إرهابية تعمل من خلالها، فاعتمدت على المال الذى حصلت عليه فى سوريا والعراق من جراء تمددها، وتحصل على المال من إنتاج النفط وغيره، والقيام ببيعه إلى الدول المجاورة من الذين يقاتلونها، فهى تبيع نفطها إلى روسيا وإلى القيادة السورية، ولا تكتفى بذلك بل تبيع الفوسفات وتجنى الضرائب من السكان.

لقد حققت «داعش» مهارات كبيرة فى استخدام الإنترنت والإعلام الحديث فلديها قنوات عدة منها «الاعتصام» و«الفرقان» و«الحياة» ولديها أكثر من خمسين ألف حساب على تويتر، كما لها قناة خاصة بالنساء لتجنيد الفتيات هى قناة «الخنساء».

كما استطاعت أن تضم إليها بعض المنظمات الإرهابية الإقليمية، واختطفت كثيراً من الجماعات الإرهابية من القاعدة، فانضم إليها ثلاثة فروع فى ليبيا برقة، وفزان، وطرابلس، وبوكو حرام فى نيجيريا، وتنظيم أنصار بيت المقدس شمال سيناء وتمركزت فى العريش، والشيخ زويد، ورفح، وقرى المهدية وجبل الحلال، والتنظيم فى شمال سيناء اسمه الحقيقى «أرض الكنانة»، وعناصره من أبناء المحافظة، والقبائل، إضافة إلى العناصر الأجنبية، واشترط البغدادى على أنصار بيت المقدس للانضمام إليه أن يبعث لهم بقائد للجماعة من عنده، فبعث بضابط عراقى سابق فمن الذى دفع للتنظيم وجعله يضرب فى شمال سيناء؟ ولماذا فى شمال سيناء لقد توحد الإرهابيون فى سيناء بعد الإطاحة بنظام مرسى، وتوحدت رايتهم تحت تنظيم «أنصار بيت المقدس» الذى بايع فى النهاية «داعش»، للحصول على الدعم المالى والعسكرى من التنظيم، لكن أهالى سيناء الشرفاء والقوات المصرية كانوا لهم بالمرصاد، والقاعدة أن الإرهاب لا يكسب الحرب لكنه يحدث الفوضى ويخل بالأمن.

إن القضاء على «داعش» فى الموصل والرقة، سوف يقضى على الجسد لكن الأطراف تظل تعمل فى أنحاء كثيرة من العالم، لهذا لابد من خطة استراتيجية دولية للقضاء على الأذرع والأطراف بعد سقوط «داعش».

إن معركة الموصل استندت إلى استراتيجية خاطئة وافتراضات زائفة كما تقول المجلة الشهيرة «فورين اففيرز»، لقد أكدوا للجميع أن «داعش» ستتراجع وتهزم لكنه ثبت أن الانتصارات التى حققها الجيش العراقى منذ منتصف أكتوبر عام 2016 لم تحرر سوى ربع المساحة، وأن الحرب تحولت إلى استنزاف، لأن التنظيم قاتل بشراسة، واتبع تكتيكات كبدت القوات العراقية خسائر فادحة، فقد نشر تنظيم «داعش» القناصة على أسطح المنازل، واستخدم ترسانة من الصواريخ قصيرة المدى، كما استخدم السيارات المفخخة فى الهجوم.

لقد توقف تقدم القوات العراقية وتباطأ بسبب المدنيين الذين رفضوا النزوح لعاملين هما رداءة معسكرات اللاجئين، وطلب الرئيس العبادى منهم عدم مغادرة أماكنهم، مما تسبب فى عرقلة التقدم، خصوصًا أن حرية الحركة لدى المهاجمين مغلولة بسبب عدم القدرة على استخدام الأسلحة الهجومية الثقيلة والصواريخ، لقد استطاع التنظيم استخدام طائرات دون طيار فى استهداف القوات العراقية فى الموصل.

فالحرب ستطول كما أجمع الخبراء العالميون، وسوف تستنزف العراق وإيران، لأن شعب الموصل يشعر بأن حقوقه مصادرة، وأن العراق لم يعد يملك قراره السياسى، والمعادلة سوف تتغير إذا خففت «داعش» من تشددها، وكسبت الشعب فى الموصل، عندها ستشكل تهديدًا لبغداد نفسها.