رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

كم ذا بمصر من الأنطاع!


 لست من المؤيدين لفتوى دار الإفتاء التى تسمح بتهنئة المسلمين للأقباط بأعياد الميلاد، لا تتعجب! أنا معترض فقط على أن يلجأ مسلم لمفتٍ كى يسأله عن أمرٍ إنسانى ومشاعرى ووطنى، وكأنما الدين قد تحول على يد كهنة المعبد إلى سياج كبير أو سجن ضيق، بحيث نضطر بسببه إلى اللجوء للمفتى لسؤاله عن كل كبيرة وصغيرة فى حياتنا!.

 تخبرنا كتب السيرة أن واحداً من المسلمين ذهب فى أمرٍ مشابه لسيدنا عمر بن الخطاب - رضى الله عنه - وقال له: لقد وجدت تمرة فى الطريق فماذا أفعل بها؟ يا سلام على النطاعة! الرجل عثر فى الطريق العام على بلحة، فحملها وكلف نفسه مؤنة الذهاب لسيدنا عمر ليسأله عن حكم الدين فى تمرة عثر عليها فى الطريق! ولكن سيدنا عمر لم يكن مثل دار الإفتاء المصرية، فلم يفكر فى إصدار فتوى دينية بشأن البلحة، ولكنه أمسك العصا التى يتكئ عليها وضرب بها الرجل وهو يقول له: كلها يا نطع، لذلك كان يجب على المفتى أن يضرب السائل بالعصا التى يتكئ عليها ويقول له: هنئ صديقك المسيحى بعيده يا نطع.

ومع ذلك فإن المسألة أصبح لها بعد آخر، ذلك أن تراكم الفتاوى المسيئة عبر عقود أدى إلى خلل فى العقلية المسلمة، خاصة بعد أن تسلطت الأفكار السلفية على عقول العوام، فمن ابن حنبل لابن تيمية لابن خزاعة لابن السميدع حتى وصلنا لابن الأزهر وابن الوهابية وابن البنا وابن لادن وابن قطب، وعبر هؤلاء كلهم تناثرت وتكاترت الفتاوى التى تحرم تهنئة المسيحيين بكل أعيادهم، وتحريم الترحم عليهم، وتحريم إلقاء السلام عليهم، ثم انتقلت هذه الفتاوى لمرحلة أخرى على يد الحوينى ابن حجازى، وياسر بن برهامى، ومحمد بن حسان، وحسين بن يعقوب، هذه المرحلة هى مرحلة تكفير - وليس التحريم تكفير كل من يقوم بالتهنئة - أى أنه بمجرد أن قام بالتهنئة، وهو خالى البال، إذا به ينتقل «أوتوماتيكياً» إلى خانة الكفر، وطبعاً لأنه كافر، فلن تنفعه صلاته ولا صيامه ولا حجه ولا حتى شهادة أن لا إله إلا الله التى يتلفظ بها بلسانه وقلبه كل يوم عشرات المرات، لأن عبادة الكافر غير مقبولة، ألم يصبح كافراً عندهم؟!.

من أجل كل هذا لم يسترح فؤادى لفتوى دار الإفتاء أو فتوى الأزهر بإجازة التهنئة، فقد اعتبرتها نطاعة من السائل وجهلاً من المفتى بطبيعة الفتوى الدينية، ولكن هناك شيئاً آخر أعرفه، وقد لا يعرفه الكثيرون، وللكثيرين أقول لهم: لا يغرنكم فتوى الإفتاء بجواز تهنئة المسيحيين بعيد الميلاد المجيد، ذلك أنهم يقولون فيما بينهم عن جواز هذه التهنئة: «إننا نؤمن بميلاد المسيح - عليه السلام - ولذلك لا ضير إن هنئناهم بموعد مولده حتى ولو اختلفنا معهم فى زمن هذا الميلاد، ولكن لا يجوز لنا أن نهنأهم بعيد القيامة، لأننا لا نؤمن بصلب المسيح، وبالتالى لا نؤمن بقيامته، إذ رفعه الله إليه دون أن يتمكن منه اليهود ولا الرومان»، ومع ذلك فإننا لا ننكر أن هناك خلافاً بين علماء الأزهر حول جواز التهنئة، فتجد منهم من يحرمها على الإطلاق وتجد منهم من يجيزها بشروط، وسيظل هذا الجدل عقيماً بليداً غبياً إلى أن نعرف أن العلاقات الإنسانية تخضع لمشاعرنا، وأنه لا يجوز سؤال دار الإفتاء وغيرها من الهيئات عن كل أمر من أمورنا وإلا لأصبحنا أنطاعاً، مثل النطع الذى ضربه سيدنا عمر بن الخطاب.