رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

لا أهلاً باليهود رغم تصريحات العريان


بعيداً عن الكوارث الاقتصادية والسياسية التى تمر بها مصر اليوم، فإن الانقلاب الإعلامى فى الصحف القومية فى التوجهات والتحليلات، فاجأنا بقدر غير يسير من النفاق محافظة على المسيرة ومسايرة لكل العهود والأذواق والألوان. لم يخجل الأهرام

ولا القائمون على أمره بعد الثورة أن يذكر يوم الأربعاء 2 يناير 2013- فى العنوان الرئيسى فى الصفحة الأولى- بأن القيمة الادخارية للجنيه المصرى أعلى من الدولار. قد يكون هذا صحيحاً وفق تحليل يفهمه الاقتصاديون أو أهل البنوك، ولكن المواطن العادى لا يقبل هذه اللغة ولا هذه التحليلات، ولا يقبل إلا أن تظل قيمة الجنيه المصرى ثابتة أمام الدولار والإسترلينى، وأن تظل الأسعار ثابتة، وهو ما وقع عكسه تماماً، وسينعكس ذلك حتماً حالياً أو لاحقاً على الأقل، على السلع المستوردة وما أكثرها.

وقد عبّرت عن هذا كل صحف المعارضة-مع تجنى بعضها أحياناً وتجاوزها للحقائق-، حيث جاء فى الصفحة الأولى فى نفس يوم الأربعاء فى جريدة اليوم السابع وفى العنوان الرئيسى أيضاً «الغلاء يحاصر المصريين بعد ارتفاع الدولار» هذا على سبيل المثال لا الحصر. كأننا فى بلدين مختلفين ولسنا فى قطر واحد، أما جريدة الحرية والعدالة فجاء فى صفحتها الأولى فى اليوم نفسه، بأن «صندوق النقد ملتزم بدعم مصر.. والدولار يستقر عند 6.42 جنيه». ولا أدرى ماذا يجبر صندوق النقد الدولى على أن يلتزم بدعم مصر، ولا ماذا يجبر الدولار على أن يستقر عند رقم معين من قيمة الجنيه المصرى. معادلة تحتاج إلى مزيد من الشرح والإقناع والإنتاج والتصدير إلخ. دعنا أيها القارئ من الاقتصاد وهمومه، ولنعد إلى شىء من هموم السياسة، فى محاولة جديدة لفهم بعض ما يدور وما يطرح فى السوق من تصريحات قد تكون استباقية لأمر جلل، لن تظهره إلا الشفافية المفقودة حينما تعود.

جاءت تصريحات الدكتور عصام العريان بشأن اليهود صادمة فى ضوء تاريخه المتميز فى الحركة الوطنية والإسلامية منذ السبعينيات، وإسهامه مع آخرين فى إحياء مفاهيم الحركة الإسلامية الوسطية، وتجديد دعوة الإخوان المسلمين وسط الشباب المتخبط آنئذ، خاصة أن الدكتور العريان يشغل مراكز سياسية كبيرة ومهمة فى مصر اليوم، وليست مراكز أو مهام فى نطاق الدعوة فقط.

وفى عهد عبدالناصر الذى أشار إليه أو لمزه العريان فى تصريحاته، وبعيداً عن الظلم الكبير الذى وقع على الإخوان المسلمين آنئذ، لم يكن أحد فى مصر ولا غيرها، يستطيع أن يذكر كلمة «إسرائيل» إلا خلسة أو خجلاً، وإن ذكرت فمشفوعة بالعدوان والاحتلال والإجرام. ورغم هزائم مصر العسكرية غير المبررة فى عهد عبدالناصر أمام التآمر العالمى، والدعم الكامل لإسرائيل، فإنها -أى مصر-كانت تسير فى طريق المقاومة للاحتلال الصهيونى، وكانت تجر العالم العربى وجزءاً كبيراً من أفريقيا وآسيا وراءها، ولم يكن هناك قبول للأوضاع المهينة التى قبلتها مصر بعد حرب أكتوبر وانتصار 1973 على إسرائيل، حيث بدأت الهزيمة والتآمر أثناء الحرب وبعده مباشرة، وتغير كل ذلك إلى الأسوأ أو جزء كبير منه بعد عبد الناصر.

وقد شاهدنا بكل حسرة وألم وندم، المحاثات- بعد الانتصار- عند الكيلو 101 غرب القناة، وليس فى شرقها، كما كان ينبغى أن يكون فى حالة الانتصار، ثم شاهدنا زيارة السادات، وسنظل نعانى منها حتى تهلك أو تعدل بشكل مقبول. وشاهدنا على إثر ذلك تفكك العرب وتفرقهم إلى فسطاطين ثم ثلاثة ثم عشرة، بعد انفراط العقد وضياع نتائج الاتفاقيات العربية التى كانت حقيقة تهدد احتلال إسرائيل لفلسطين وعدوانها وتقض مضجعهم، وبالذات اتفاقية الدفاع العربى المشترك واتفاقية الخرطوم التى تعرف باللاءات الثلاث، لا للتفاوض، لا للصلح، وكذلك لا للاعتراف. وقد أصبحت اللاءات «نعم» وصارت واقعاً مؤلماً كلها اليوم.

ولربما فهم أو أدرك بعضنا مبكراً، أنه من أسباب الحرب اليوم على سوريا أو الثورة فيها رغم عدالتها واستحقاقها للدعم، ذلك الموقف الممانع من إسرائيل والهيمنة الغربية سابقاً، الذى تمثل فى الالتزام- فى الغالب- بتلك الاتفاقيات العربية من دون معظم الدول العربية، رغم فساد النظام السورى وإجرامه فى حق الإخوان المسلمين والمعارضة أيام الأسد الأب، وفى حق الوطن كله والشعب السورى اليوم فى عهد الابن، الذى أفسد أكثر من أبيه المخضرم. أقول هذا رغم الاختلاف فى التأويل والتفسير للأوضاع فى سوريا منذ وقت مبكر.

وفق تصريحات العريان التى لا ندرى لها سبباً أو مناسبة، وهو أمر غير معقول، فكم رأينا التآمر من جواسيسهم- ولو حدث ذلك وكانت العودة للفلسطينيين كاملة، وهو حلم سيتحقق يوماً ما إن شاء الله تعالى، يظل الاحتلال لفلسطين- فى يقينى قائماً- وتظل«إسرائيل» دولة طارئة محتلة لبلادنا ومقدساتنا التى يجب أن ندافع عنها لتحريرها كاملاً. والأمم المتحدة لا تستطيع تغييراً للواقع دون إرادتنا ووحدتنا. فكما يعلم العريان أن المقدسات لا تباع ولا تشترى، ولا تترك للمحتلين، وإلا نكون قد أقررنا المغتصب على ما اغتصبه، والمعتدى على عدوانه، وهو مالا يقبله عقل ولا شرع، ولم تقبله الحركة الإسلامية فى يوم من الأيام-على الأقل فى مصر والعالم العربى حتى اليوم- بل لم يستطع أحد أن يثيره على أى مستوى فى الحركة الإسلامية إلا أيام الرئيس مرسى ومكتب الإرشاد الحالى الذى كان د. عصام العريان عضواً فيه قبل أن يصبح نائباً لرئيس حزب الحرية والعدالة «الإسلامى».

وكان يطمح العريان أن يكون رئيساً للحزب الحاكم فى تنافسه مع الكتاتنى، ولا أدرى إن كانت تصريحات العريان عن جهل، وهو الرجل المتعلم والمثقف والذى تربى فى دعوة الإخوان وعمل فى صفوف القيادة طويلاً، أم أنها عن سياسة وهذا هو الخراب بعينه. فالسياسة فى الإسلام تدور فى فلك الحق والعدل والمساواة والشورى، ولا تدور فى فلك النفاق العالمى أو قبول الهيمنة والاحتلال حتى لأراضى الغير بالقوة، سواء كان هذا الغير مسلماً أو غير مسلم، لأننا نقرأ ونفهم يقيناً معنى قوله تعالى «وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ» وندرك معنى قوله تعالى (لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ). أنا لا أقول إن التصريحات تدل على الموالاة أبداً لليهود، ولكننى أقول إن التصريحات خطأ فادح فى حق مصر وفلسطين والقضية أولاً وأخيراً.

ولا أدرى إذا كان الدكتور العريان قد أدرك جرائم اليهود فى نقض العهود والوعود التى قطعوها على أنفسهم حتى مع الرسول صلى الله عليه وسلم فى ضوء دستور المدينة. وهو العريان الذى ربّى أجيالاً على السيرة النبوية العظيمة ودروسها النيرة، وما إذا كان يظن أن اليهود اليوم فى وفائهم للعهود أفضل من ذى قبل، وهم ينعمون بدعم غير محدود من الأمريكان ومن والاهم من الغربيين بل ومن بعض العرب، وخصوصاً الذين سمحوا للقواعد العسكرية الأمريكية بأن تنتشر فى البلاد، ومن اطمأنوا إلى الحماية الأمريكية التى عبّر عنها ضاحى خلفان أكثر من مرة نيابة عن الشيوخ والأمراء والملوك والسلاطين وخصوصاً فى الخليج.

هل يستنكر الإخوان تصريحات العريان؟ وهل يستنكر حزب الحرية والعدالة تصريحات العريان؟ هل يتبرأ الرئيس مرسى من تصريحات العريان وهو مستشار الرئيس وعضو فاعل فى الدستورية وعضو فاعل فى الشورى كذلك؟ وهل تستنكر الشورى تلك التصريحات وتتبرأ منها أم أنهم مضطرون للقبول تحت أى ظروف وضغوط، وفق التأويل الخاطئ للقواعد الكلية والأصولية والفقهية ومنها «الضرورات تبيح المحظورات» لا أدرى ماذا كان سيكون موقف الإخوان عموماً والعريان خصوصاً لو صدر هذا التصريح عن أحد أركان مبارك أو أحد الفلول اليوم.

هناك-للأسف الشديد- من يحاول أن يخدع فى السياسة كما كان هناك دائماً من يخدع فى الدين، فيحاول جاهداً أمام العجز وصعوبة العمل الجاد أن يهيئ ضرورات- تبيح له فى ظل العجز أياً كان نوعه- أن يحتمى بالضرورات التى هيأها لنفسه وأن يستخدم المحظورات. ولكن الشروط فى استخدام هذه القاعدة العظيمة التى جاءت للتيسير بعد استنفاد الجهد اللازم، تفضح من يحاول سوء التأويل أو الاستخدام قبل توافر الشروط المطلوبة كاملة.

الأمة فى حالة حساسة، وهى فى غنى عن التخبط الذى عانت الأمة منه طويلاً، وكانت تتوق إلى استقرار فى ضوء وصول الإخوان للسلطة بعد ثورة حضارية عظيمة لا تقبل تصريحات العريان أو من كان على هذه الشاكلة على أى حال أو تأويل، ومهما كان موقعه فى العمل السياسى. أما فلسطين وما يتعلق بها أو يؤثر فيها، فهى من القضايا المركزية للأمة كلها، ولا يملك جيل من الأجيال مهما كان ضعيفاً، أن يفرط فيها أو يتنازل عن جزء من ترابها خصوصاً إذا كان من الوطنيين إسلاميين كانوا أو قوميين وليبراليين وغيرهم.

والله الموفق