رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حماقات اقتصادية


استأجر أحد الأشخاص عددا من سيارات النقل وحشد فى كل منها حمولات ضخمة من الأكياس المخصصة لعبوات السكر، وكل كيس يحتوى على كيلو جرام واحد وفق البيانات المسجلة عليه، وأرسل كل سيارة بحمولتها إلى أحد أحياء الاسكندرية وضواحيها، ووقف أعوانه على كل سيارة يعلنون للناس توافر السكر عندهم بأسعار قريبة من السعر الرسمى وأقل من سعر السوق السوداء، وقالوا للناس إن كل شخص من حقه الحصول على كيسين فقط حتى يمكن تلبية احتياجات أكبر عدد ممكن من المواطنين، وطلبوا من كل شخص أن يجهز ثمن الكيسين فكة حتى لا يضيع الوقت فى تدبير باقى الخمسين أو المائة جنيه لأى زبون، وفى دقائق قليلة كانت حمولة سيارتين إحداهما فى سموحة والأخرى فى الرأس السودة قد نفدت بالكامل. وبعد دقائق أخرى اكتشف الشعب المحترم أن العبوات تحتوى على ملح وليس سكر، وأن الناس العبيطة وقعت فى براثن نصاب محترف أدرك حماقتهم وتكالبهم على الشراء والتخزين وباع لهم الملح بسعر السكر!

حماقات الناس والحكومة فى الأداء الاقتصادى لا حصر لها. 75 مليون بطاقة تموينية بينما من يستحق الدعم السلعى لا يتجاوز نصف هذا العدد. ناس تملك سيارات ثمن إحداها يتجاوز المليون جنيه، ورغم هذا تدفع لهم الدولة دعماً للبنزين وغيره. ناس أخرى تترك كل الأعمال الشريفة وتشارك فى عصابات جمع الدولارات والمضاربة على أسعار العملات الأجنبية الأخرى. وحكومةفاشلة هى الأخرى لا تحاول إلغاء الدعم العينى واستبداله بالنقدى لمن يستحق، ولا تحاول منع استيراد كل ما لا يحتاج إليه البلد من سلع لا يحتاجها شعب كحيان مثل الشعب المصري، ولا تحاول تشغيل المصانع المعطلة لإنتاج منتجات مصرية نستغنى بها عن استيراد كل احتياجاتنا من الخارج، ولا تحاول فرض ضرائب تصاعدية على الشعب الموازى الذى منحته قوانين السادات ومبارك ملايين ومليارات لا يستحقها، ولا تحاول مقاومة الاقتصاد الأسود الذى يضرب البلاد طوال العقود الأربعة السوداء التى افقرت الدولة ومنحت الثروة للمغامرين والنصابين واللصوص والمحاسيب وغيرهم، ولا تحاول إحياء الصفقات المتكافئة فى التصدير والاستيراد بدلاً من تسول الدولار واليورو لحساب قطاع خاص لا يعرف الرحمة ولا الوطنية حتى لو كان يشمل بعض العناصر الإيجابية النادرة.

التحول الرأسمالى فى مصر كان محكوما عليه بالفشل منذ بداياته الأولى لأن مصر لا تملك مقومات الرأسمالية مثل أوروبا وأمريكا. الناس فى مصر يعملون بمنطق «اضرب واجرى» ومعظمهم يبحث عن الربح السريع بأى ثمن وبأى طريقة دون أدنى اعتبار للصالح العام ودون أى إدراك للمعنى الذى تقصده الدولة وهى تقول إن القطاع الخاص قاطرة التنمية! الوعى السياسى والاقتصادى والاجتماعى والوطنى ضعيف للغاية لدى السواد الأعظم من الناس، والمواطن المصرى الاستثمارى لا يبدأ مشروعه إلا بعد الاستعانة بطاقم من المحاسبين القادرين على التلاعب بالأوراق والمستندات للتهرب من الحجم الحقيقى للضرائب المفترض اداؤها على النشاط التجارى أو الصناعى أو الخدمى لصاحب المشروع، والأسوأ من كل هذا أن المصريين البسطاء الفقراء لا يكرهون الفساد والفاسدين بدافع وطنى أو أخلاقي، ولكن لأنهم فاشلون فى الانخراط فى هذا الفساد وتحقيق نفس المكاسب التى يحققها إخوانهم الفاسدون!!

العصر الذى نعيشه حالياً ليس سيئاً كما يعتقد الكارهون، ولكنه أحد أفضل عصور هذا البلد، فنحن الآن نواجه مشاكلنا المزمنة بدون المسكنات التقليدية التى كان حكامنا السابقون يستخدمونها لاسكات الناس وتأجيل المواجهة لعهد لاحق، أما الآن فإننا سوف نخرج إن شاء الله من هذه المعجنة بإصلاحات مؤسسية قد نتحول بها من دولة خائبة إلى دولة حقيقية.