رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

من أسباب المغفرة «2-2»


نواصل فى هذا المقال بعض أسباب المغفرة وهى عديدة لا تحصى. أدركها المحتسبون والمستغفرون والتائبون، فى فترات كثيرة من التاريخ الإسلامى، لا يكاد يخلو منها يوم ولا ساعة ولا دقيقة، بل ولا ثانية ولا جزء من الثانية، بل على مر التاريخ الإسلامى كله، فاستغفروا وأنابوا بمفاتيح عدة أو بمفتاح واحد المهم الولوج من الباب الصحيح، والأبواب كثيرة، والمفاتيح عديدة، وميسرة لمن شاء، «وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ». كما كتب العلماء قديماً وحديثاً فى هذا الشأن كثيراً، حتى لا يقنط مذنب من سعة رحمة الله تعالى. وهنا العديد من تلك الأقوال والنقول. «قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّى إِذًا لَّأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنفَاقِ وَكَانَ الْإِنسَانُ قَتُورًا». ومن ذلك قوله تعالى فى الحديث القدسى: (إنك ما دعوتنى ورجوتنى غفرت لك ما كان منك ولا أبالى). هذا يعنى، على كثرة ذنوبك وخطاياك، ولا يعاظمنى ذلك ولا أستكثره.

وفى صحيح الحاكم عن جابر: (أن رجلا جاء إلى النبى صلى الله عليه وسلم وهو يقول: واذنوباه، مرتين أو ثلاثا. فقال له النبى صلى الله عليه وسلم: قل: اللهم مغفرتك أوسع من ذنوبى، ورحمتك أرجى عندى من عملى، فقالها، ثم قال له: عد، فعاد، ثم قال له: عد، فعاد، فقال له: قم قد غفر الله لك). وقد نقلوا عن الشاعر الماجن أبو نواس أنه فى آخر حياته، عند الموت، وجدوا تحت فراشههذه الأبيات العظيمة. يَا رَبِّ إِن عَظُمَت ذُنُوبِى كَثرَةً ** فَلَقَد عَلِمتُ بِأَنَّ عَفوَكَ أَعظَمُ إِن كَانَ لاَ يَرجُوكَ إِلاَّ مُحسِنٌ ** فَمَن الَّذِى يَدعُو وَيرجو المُجرِمُ مَا لِى إِلَيكَ وَسِيلَةٌ إِلاَّ الرَّجَا ** وَجَمِيلُ عَفوِكَ ثُمَّ إِنِّى مُسلمُ.. أما السبب الثانى للمغفرة: فهو الاستغفار، ولو عظمت الذنوب وبلغت العنان، وغطت كل السحاب وسارت معه. وقيل ما انتهى إليه البصر منها. أو كانت أكبر من أن يتصور المذنب أنها تغفر له. وفى الرواية الأخرى: (لو أخطأتم حتى بلغت خطاياكم ما بين السماء والأرض ثم استغفرتم الله لغفر لكم).

والاستغفار: هو فى الواقع عند كثير من العلماء طلب المغفرة، والمغفرة هى وقاية شر الذنوب مع سرها، وقد كثر فى القرآن ذكر الاستغفار، وكذلك فى السنة النبوية الشريفة. فتارة يؤمر العبد بالاستغفار. كقوله تعالى: (وَاستَغفِرُوا الله إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمُ). سورة المزمل: وقوله: (وَأَنِ استَغفِرُوا رَبَّكُم ثُمَّ تُوبُوا إِلَيهِ). سورة هود: وتارة يمدح أهله كقوله تعالى: (وَاٌلمُستَغفِرِينَ بِالأَسحَارِ). سورة آل عمران: وقوله تعالى: (وَاٌلَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَو ظَلَمُوا أَنفُسَهُم ذَكَرُوا اللهَ فَاستَغفَرُوا لِذُنُوبِهِم وَمَن يَغفِرُ الذُّنُوب إِلاَّ اللهُ). سورة آل عمران: وتارة يذكر أن الله يغفر لمن استغفره كقوله تعالى: (وَمَن يَعمَل سُوءًا أَو يَظلِم نَفسَهُ ثُمَّ يَستغفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَّحِيماً). سورة النساء. ويروى عن سيدنا لقمان الحكيم أنه قال لابنه: (يا بنى عود لسانك اللهم اغفر لى. فإن لله ساعات لا يرد فيها سائلا). وقال الحسن: (أكثروا من الاستغفار فى بيوتكم، وعلى موائدكم، وفى طرقكم، وفى أسواقكم، وفى مجالسكم، وأينما كنتم فإنكم ما تدرون متى تنزل المغفرة).

ويشهد لهذا ما فى الصحيحين عن أبى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم: (إن عبدا أذنب ذنبا فقال: رب أذنبت ذنبا فاغفر لى، قال الله تعالى: علم عبدى أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به، غفرت لعبدى. ثم مكث ما شاء الله ثم أذنب ذنبا آخر فذكر مثل الأول مرتين أخريين). وفى رواية لمسلم أنه قال فى الثالثة: (قد غفرت لعبدى فليعمل ما شاء).والمعنى: ما دام العبد على هذا الحال، كلما أذنب استغفر، وعاد الى ربه تائبا مستغفرا. فإن الاستغفار يدل على أن هؤلاء المذنبين من الذين يقرون بعدم الإصرار على الذنب وإن ارتكبوه. وكان بعضهم يقول: (استغفارنا هذا يحتاج إلى استغفار كثير). وفى ذلك يقول بعضهم: استَغفِرُ اللهَ مِن اَستَغفِرُ اللهَ ** مِن لَفظَةٍ بَدَرَت خالَفتُ مَعناها وَكَيفَ أَرجُو إِجَابَاتِ الدُّعَاءِ وَقَد ** سَدَدتُ بِالذَّنبِ عِندَ اللهِ مَجراها وأفضل الاستغفار، ما قرن به ترك الإصرار وهو حينئذ يؤمل توبة نصوحا، وإن قال بلسانه: (استغفر الله) وهو غير مقلع بقلبه فهو داع لله بالمغفرة كمن يقول: (اللهم اغفر لى) وهو حسن وقد يرجى له الاجابة. لهذا قيل: (ما أصر من استغفر ولو عاد فى اليوم سبعين مرة). وجاء فى شأن المعاود للذنب: (قد غفرت لعبدى فليعمل ما شاء). وفى حديث كفارة المجلس: (أستغفرك اللهم، وأتوب إليك). وكما فى حديث شداد بن أوس عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: (سيد الاستغفار أن يقول العبد: (اللهم أنت ربى لا إله إلا أنت خلقتنى وأنا عبدك وأنا على عهدك، ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك على وأبوء بذنبى فاغفر لى، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت (أخرجه البخارى وفى الصحيحين عن عبدالله بن عمرو أن أبا بكر الصديق قال: يا رسول الله علمنى دعاء أدعو به فى صلاتى قال: قل، (اللهم إنى ظلمت نفسى ظلما كثيرا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لى مغفرة من عندك وارحمنى إنك أنت الغفور الرحيم).

وفى مثل هذا يقول بعضهم:

استَغفِرُ الله مِمَّا يَعلَمُ اللهُ ** إِنَّ الشَّقِىَّ لَمَن لاَ يَرحَمُ اللهُ

مَا أَحلَمَ اللهَ عَمَّن لاَ يُرَاقِبُهُ ** كُلٌّ مُسِىءٌ ولَكَنِ يَحلُمُ اللهُ

فاستَغفِر اللهَ مِمَّا كَانَ مِن زَلَلٍ ** طُوَبى لِمن كَفَّ عَمَّا يَكرَهُ اللهُ

طُوبَى لِمَن حَسُنَت سَرِيَرَتُهُ ** طَوبَى لِمَن يَنتَهِى عَمَّا نَهَى اللهُ

أما السبب الثالث من أسباب المغفرة: فهو التوحيد، وهو السبب الأعظم، فمن فقده فقد المغفرة، ومن جاء به فقد أتى بأعظم أسباب المغفرة. «إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ». وختاما لهذا المقال، تأمل أيها القارئ ما جاء فى الحديث القدسى «يَا عِبَادِى لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِى صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِى فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِى إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ» وهذا يؤكد سعة رحمة الله تعالى أيضا، وهى من أجمل الرزق الذى يرزق به النساء فى الحياة الدنيا والآخرة.. وبالله التوفيق.