رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الدستور التفصيلى على مقاس الإسلاميين


الثورة تحتاج ليس فقط لإرادة شعبية بل إرادة دولية وهو الشىء غير المتوفر الآن حيث إن مزاج الإرادة الدولية أصبح يميل للتيار الإسلامى المتشدد وهذا موضوع يطول شرحه قد نتناوله فى مقالات قادمة.

معركة الدستور بين الإسلاميين وخصومهم مؤهّلة لتكون واحدة من أشد المواجهات ضراوة، تلك التى يحلو للبعض بأن يسميها «معركة الدستور بين الإسلاميين وبين مجموعات من الليبراليين والشيوعيين والاشتراكيين وجميع التيارات السياسية المدنية الأخرى. لكن وبهدوء.. ألم تخرج أغلب دساتير العالم من برلماناتها المنتخبة؛ فحسب دراسة لجامعة Princeton الأمريكية «أورد بعض نتائجها د.معتز عبدالفتاح فى مقال نشرته «الشروق»، أن من بين 200 حالة لكتابة الدساتير فى العالم، فى الفترة من 1975 وحتى 2003، قام البرلمان بكتابة 42 % منها، أو عبر هيئة تأسيسية معينة من قبل البرلمان «بنسبة 9% من الحالات». وهذا طبعًا ليس له علاقة برؤية البعض فى أنَّ هذه الملايين ليست من المصريين، أو حتى بما يتحدثون بشأنه من أن الديمقراطية لا تختصر فى صناديق الاقتراع.

وهو حديث لم نكن لنسمعه لولا الفشل الذى صاحبهم على طول المسيرة الانتخابية حتى تأكّد لهم أنهم لا يمثلون إلا أنفسهم، وليس أمامهم إلا الصراخ عند أى خطوة يخطوها الشعب، معارضة الأقلية للأغلبية من الأمور المتعارف عليها فى مجتمعات العالم الحديث، إلا أنَّ الطرق التى ينتهجها المعارضون فى بلادنا، وحدة الخطاب، ولهجته تختلف كثيرًا، حتى ليبدو الأمر أشبه بانقلاب، بل هى بالفعل رغبة دفينة فى الانقلاب لو أُتِيحت لهم وسائله، مهما كلف البلاد والعباد فى هذا المنعطف الفاصل برز الدور الأساسى والحاسم للإخوان المسلمين، فهم يمثلون التنظيم الأكبر والأكثر إحكاماً، وقد تمكنوا من شق الصف الثورى وفرض، أو على الأقل محاولة فرض، درجةٍ ما من البطء على مجرى الأحداث مكنت النظام من التقاط أنفاسه وترتيب ما أمكنه من الأوراق، لكن ذلك لا ينفى اشتراكهم مع بقية القوى فى انعدام توقعهم أو استعدادهم لتغييرٍ ثورى من هذا النوع.

وبوصولهم إلى السلطة فى ظروفٍ ليست بعيدةً تماماً عن الشبهات أكدوا ورسخوا استعصاء الثورة وأثبتوا وجهات نظر سلبية فيهم كانت تطوف بأذهان الكثيرين إما رأياً وقناعةً وإما حدسا. لقد أثبت د. مرسى والإخوان من ورائه أنهم استثمروا طويلاً فى التنظيم المحكم على حساب التنظير وأن جعبتهم المتينة الفخمة خالية، فهم لا يختلفون إطلاقاً عن نظام مبارك من حيث انحيازاته الطبقية ولا يملكون رؤيةً مغايرة، ليس أدل على ذلك من لجوئهم إلى نفس الطرق والأساليب التى كان ينتهجها مبارك مثل قرض صندوق النقد الدولى، وباستثناء مشروعهم الخاص الذى يهدف إلى تمكين كوادرهم وإحلالهم فى مناصب الدولة الحساسة فليس لديهم مشروعٌ وطنى، بالإضافــــة إلى ذلك فقد أثبتوا للأسف انعدام درايتهم وقـــــدراتهم الإدارية وافتقارهم للتصورات عن طريق سلسلةٍ من الــقــرارات المتسرعة التى تصب فى خانة ‹التمكين› سرعان ما يجبرون على التراجع عنها لانعدام قانونيتها من قبيل قرارى عودة مجلس الشعب المنحل وإقالة النائب العام ثم تعيين آخر استقال ثم عاد.

ناهيك عن تصريحات أعضاء الجماعة بلسان الرئاسة دون أن تكون لأى منهم أية صفةٍ رسمية، وليس من عجب فى كون ذلك التخبط والارتباك البين أديا إلى تآكل شعبيتهم وإلى كفران قطاعاتٍ وشرائح متزايدة من الشعب بالثورة. مثقلون بهذا الهبوط فى الشعبية وذلك الارتباك، وإزاء ما يلوح من أزمةٍ فى فرض حضور الدولة وبسط سيطرتها كما برهن على ذلك التعامل مع الملف الأمنى فى سيناء فى تقديرى الشخصى انزلقت الجماعة إلى أكبر اختبارٍ أو أزمةٍ فى تاريخهم... أزمة احترام الجمهور الأوسع لهم وتعاملهم معهم بجدية، وهى أزمةٌ لم يفرضها عليهم نظامٌ ما بما يتيح لهم استغلالها فى تثبيت أسطورة الاضطهاد التى طالما كسبوا من ورائها وإنما هى نتاجٌ مباشر لما سبق وذكرته آنفاً من خللٍ لصالح التنظيم على المضمون والتنظير.

أنا على يقين إذن من أن كل تلك المتغيرات وغيرها لا تخفى على قواعد الجماعة وقياداتها، كما أن سخرية الصحافة ورجل الشارع منهم ليست سراً، ومن هنا نفهم تشبثهم اليائس بتمرير هذا الدستور فنصوصه كفيلة ليس فقط بإعطاء د. مرسى صلاحيات خاصة وإنما من تكبيل مجتمع المستقبل بشبكة من التشريعات ترسخ لوجودهم من خلال مجموعة من التصورات تحد من الحريات والحقوق وتفرض نمطاً محدداً من العلاقات والواجبات على مختلف مكونات ذلك المجتمع بما يسمح دائماً بحضور الجماعة ومن هم على شاكلتها فى صدارة المشهد السياسى بامتياز. هناك معركةٌ تلوح فى الأفق، وهى قادمةٌ لا محالة، ففى حال حل الجمعية «كما هو مرجح» سيكون ذلك بمثابة ضربةٍ قانونيةٍ قاصمة للجماعة ولمساعيهم للتمكين والتغلغل فى نسيج الدولة ونصوص الشرعية التى تصيغ العقد الاجتماعى.

وإذا ما أضيف إلى تراجعاتهم المستمرة فذلك كفيلٌ بإشعارهم بالعجز المتزايد وبالحصار الذى يلتف حولهم ليعزلهم، كما أنه سيشكل انتصاراً معنوياً للقوى المدنية.. ولا نعلم كيف سيكون رد الجماعة فى تلك الحال وهل تخبئ شيئاً أم أننا رأينا آخر ما عندها؛ أما إذا حدث العكس فستحشد كل القوى المدنية طاقاتها لإسقاطه فى الاستفتاء.. من المستحيل التنبؤ بما سيسفر عنه هذا الصراع، فالبلد يعيش حالة سيولة يصبح معها كل شيء ممكناً تقريباً.. الأكيد أن الأيام المقبلة ستكون عاصفة وستشهد استقطاباً متزايداً بين القوى السياسية.. وربما عنفاً. تشهد الساحة السياسية المصرية كماً كبيراً من المعارك بين أنصار التيار المدنى وأنصار التيار الإسلامى المتشدد، حيث نجح التيار الإسلامى فى فتح جبهات عديدة بل فى اليوم الواحد تفتح أكثر من جبهة، فمرة هجوم على الفنانين ومرة ثانية على المثقفين وثالثة محاولة عودة البرلمان المنحل ورابعة إقالة النائب العام، ومرة خامسة ضرب المتظاهرين فى التحرير، إلى غيرها من سلسلة لا تنتهى من المعارك.

وفى مصر وفى ظل قراءة علمية للواقع السياسى المصرى نستطيع أن نقول إنه لو تم تمرير الدستور على هوى الإسلاميين وهو ما حدث بالفعل، سيظل هذا الدستور قائماً لمدة طويلة نظرا لأن التيار المدنى لن يكون قادراً على الحصول على نسبة ثمانين فى المائة من مقاعد البرلمان إلا بعد مدة طويلة قد تصل إلى عشرين عاما، أو من خلال ثورة أخرى والثورة تحتاج ليس فقط لإرادة شعبية بل إرادة دولية وهو الشىء غير المتوفر الآن حيث إن مزاج الإرادة الدولية أصبح يميل للتيار الإسلامى المتشدد وهذا موضوع يطول شرحه قد نتناوله فى مقالات قادمة.

■ أستاذ القانون الدولى