رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الإرادة القومية بين الدينقراطية والديمقراطية


ويقوم رابعا بالدعـوة إلى حوار مجتمعى حقيقى لرأب الصدع لتحقيق الاستقرار اللازم لبناء مؤسسات الدولة عـلى نحو ديمقراطى والانطلاق لتأسيس الدولة الحديثة، وأخيرا أقول- والقول الحق لله - إن الحق لا يُعـرف بالرجال، ولكن الرجال هم أنفسهم الذين يُعـرفون بالحق.

يمكن أن يتظاهر الإخوان المسلمون بنسيان الإهانة التى لحقت بهم من القضاء العادل النزيه عـندما أصدر حكمه ببطلان «وليس حل» مجلس الشعـب منذ تشكيله مرتين، ويمكنهم أيضا أن يتناسوا أنهم أجبروا المجلس العـسكرى عـلى تعـديل قانون الانتخابات الذى أبطل بمقتضاه المجلس، ويمكنهم أن يتناسوا أنهم هم الذين عـملوا على تعـديل الدوائر الانتخابية بما يضمن لهم تحقيق الأغلبية، كما يمكنهم أيضا نسيان الإهانة التى لحقت بهم حين أجبرهم قضاة مصر عـلى عـودة النائب العام إلى منصبه بعـد تعـيينه سفـيـرا لدى الفاتيكان العـضو المراقب فى الأمم المتحدة، ولكن الذى لا يمكن أن ينسوه أبدا هو قرار النائب العام المقال بتشكيل لجنة من خبـراء وزارة العـدل لفحص بطاقات الاقتراع وتحديـد عـدد الأوراق التى تم التصويت عـليها وفقا لمحاضر لجان الفرز الرئيسية ولجانها الفرعـية فى المحافظات، إضافة إلى استعـجاله التحريات الخاصة بذلك، كما أمر بضم المحاضر التى سبق تحريـرها بشأن تزويـر الانتخابات ومنع الناخبين من الإدلاء بأصواتهم، وكذا المخالفات التى شابت عـملية الانتخابات الرئاسية، ولعـل هذا القرار كان العـنصر الضاغـط عـلى مكتب إرشاد الجماعة الذى عجَّل باستصدار ما يسمى بـ «الإعلان الدستورى» المكمل الذى تضمن مواد تمثل أقصى درجات الاستثناء، خاصة تلك التى تتعـلق بتحصين مجلس الشورى واللجنة التأسيسية الثانية، وتحصين قرارات وقوانين الرئيس السابقة واللاحقة، وعـزل النائب العام وإعادة محاكمة رموز النظام السابق، وقد أدى هذا الإعلان إلى تقسيم المجتمع المصرى إلى تيارين أحدهـما ذى مرجعـية دينية «دينقراطى» والآخر ذى مرجعـية ليبرالية «ديمقراطى»، مما كرَّس حالة الاستقطاب والتحريض السياسى وانتشار الكراهـية فى المجتمع.

وأدى صدور الإعـلان إلى سرعة وكثافة وتراكم تفاعـلات التيارين، خاصة تفاعلات التيار الإسلامى السياسى، إذ يمكن للمتعـمق فى تحليل السلوك السياسى لقيادات الجماعة ملاحظة مدى حرصهم عـلى تعـميق هذا الانقسام إلى حد التناحر، ورغـم أن مصر قد مرت بحقب تاريخية طويلة متنوعة، إلا أنها لم تمـر بمثل هذه المرحلة التى ليس لها من دون الله كاشفة، التى بدأت بيوم عـبوس قمطرير صدر فيه هذا الإعلان، وقد أعـقـبته أيَام أدمت فيها قلوب المصريين أسفا على ما فرَّطوا فيه من حضارة وقيم، إلى أن أتى يوما امتنعـت فيه العـقول عن التفكير حين تجمهر الغـوغاء أمام المحكمة الدستورية قدس أقداس القضاء المصرى التى يُقضى فيها بميزان العدل ما تهدف إليه رسالات السماء، ولما كانت المقدمات تعـبر عن النتائج، فإن مقدمات تفاعـلات قبول الرئيس مسودة الدستور فى احتفال كبير بين صحابته ووزرائه وأعضاء جمعـيتـه التأسيسية فكانت نذير شؤم حيث صبَّت النتائج فى اتجاه مضاد لاستقرار مصر الأمر الذى أدى إلى تعـميق الهوة بين التيارين الدينقراطى والديمقراطى فأصبح المجتمع المصرى وكأنه أمام صراع اجتماعى ممتد قد يصل مداه إلى حرب أهلية يمكن أن تتأجج فى وجود حالة الانفلات السلوكى والانكشاف الأمنى المتعـمد، وغـياب الإرادة القومية للدولة.

ويقـصد بالإرادة القومية للدولة مدى إدراك عـناصر بعـدها البنيانى «القيادة السياسية وأجهزتها وأدواتها - النخب السياسية والحزبية والإعلامية – وجميع قوى الشعـب الطبيعـية وطوائفه المختلفة ..إلخ» بجميع عـناصر البيئة الاستراتيجية داخليا وخارجيا، أى مدى إدراك القيادة السياسية للدولة وجميع قواها الطبيعـية وأجهزتها وأدواتها لطبيعة تفاعلات المرحلة الراهـنة والتفاعـلات التى قد تنشأ من المتغـيرات المحلية والإقليمية والدولية، والدراسة المتأنية والتحليل الدقيق لهذه التفاعلات وتلك المتغـيرات، وإدراك مدى تأثيرها مصالح وأهداف الدولة السياسية والاقتصادية والعسكرية والاجتماعـية، خاصة تلك التى تتعلق بأمنها القومى واستقرارها السياسى، كما ينصرف مفهـومها إلى مدى رضاء القيادة السياسية وعناصر الدولة عـن نتائج الدراسة والتحليل، وينصرف أيضا إلى قدرة الدولة عـلى اتخاذ وتفعـيل الإجراءات التى تحقق حالة الرضا عـندما تكون غـير راضية عن النتائج التى تم التوصل إليها، وبتحليل هذا المفهوم إلى عـناصره الأولية يمكن أن نخلص إلى أن مفهوم الإرادة القومية للدولة تنصرف إلى ثلاثة عـناصر أساسية، الأول: هو الإدراك، والثانى هو الرضا أو عـدم الرضا عـن هذا الإدراك، أما العـنصر الأخير فهو مدى قدرة الدولة على الفعـل.

وصفوة القول إنه يمكن للمتأمل لواقع تفاعلات الفترة التى أعـقبت إصدار الإعلان الدستورى ملاحظة مدى سرعة وكثافة وتراكم الإجراءات التى اتخذتها القيادة السياسية والتيار الإسلامى السياسى، خاصة تلك التى تتعـلق بالتمسك بالإعـلان الدستورى والإصرار على الاستفتاء عـلى الدستور يوم السبت 15 ديسمبر الأمر الذى ألهب مشاعـر القوى السياسية الأخرى وأدى إلى الحشد والحشد المضاد وحصار المحكمة الدستورية، إلى أن أتى يوم الأربعـاء الحزيـن بتفاعـلاته المشينة يوم التقى الجمعان فى محيط قصر الاتحادية، كما يمكن للمتعـمق فى تحليل السلوك السياسى للقيادة السياسية لجماعة الإخوان المسلمين ملاحظة أنهم فى حالة عدم الإدراك التى تؤهلها لإدارة شئون البلاد، ولذلك فإنها تعـمل على تكريس الانقسام وزيادة الفرقة إلى حد الفوضى لصرف نظر الشعـب عـن عـجزها فى إدارة الدولة حتى لو أدى ذلك إلى التنافر والتناحر، وفى غياب هذا الإدراك يصبح الدستور أمرا غـير ذى جدوى، فالدساتير تُوضع للدول القومية، وجماعة الإخوان لا تؤمن بالدولة القومية وإنما تؤمن بدولة الخلافة الإسلامية، فسواء تم الاستفتاء بالإشراف الكامل للقضاء أو دونه، وسواء كانت النتيجة بنعم أو لا فالأمر يومئـذ سواء، ولا جدوى من الدستور ما دام هناك حاكم جاء عـلى قواعـد دستورية أقسم عـليها ثلاثا ثم خرج عـنها واكتسب لنفسه بنفسه قواعـد وسلطات تخالف التى أقسم عـليها، ولا جدوى للدستور فى وجود نائب لا عـمل له سوى تبرير المواقف، نائب يراهن عـلى رجاحة عـقل القـوى السياسية ويدعوها للحوار دون شروط، لكنه يتمسك بالإعلان الدستورى وتوقيت الاستفتاء، نائب يؤلمه كقاض خطورة الزج بالقضاة فى المعـترك السياسى، لكن لا يؤلمه حصار المحكمة الدستورية ومنع قضاتها من أداء مهمتهم المقـدسة نحو شعـبهم أمام الله أولاً وأمام ضمائرهم ثانيا، نائب يعـترف بأنه غـير راض عن الإجراءات الاستثنائية ولكنه يؤكد أن الرئيس لن يستخدمها فى الأيام القليلة الباقية على الاستفتاء، نائب غير راض عن 20% من مواد الدستور ولكنه يؤمن بإمكانية تعـديلها بعـد الاستفتاء! نائب يدعـو إلى الحوار دون شروط، ولكنه يبقى على شروط تمثل أقصى درجات الاستثناء، وأخيرا فإنه لا جدوى من الدستور ما دام هـناك من ينتظر الإشارة حتى يأتوا بالقضاة فى شيكارة.

وأعود فأقول إننى لا أريد أن أغلق الباب على هذا النحو، وأرجع إلى ما تناولته فى مقال الأسبوع الماضى فى المكان نفسه تحت عـنوان «اقتربت الساعة وانشق الوطن»، حيث تساءلت عـما إذا كان الرئيس يمكنه أن يراجع نفسه مراجعة ذاتية ويخفف من حالة الاحتقان والتوتر.

والله من وراء القصد وهو يهدى السبيل.

■ أستاذ العلوم السياسية - جامعة بورسعيد

هذا البريد محمى من المتطفلين. تحتاج إلى تشغيل الجافا سكريبت لمشاهدته.