رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ذكرى «صالح سليم».. الذى لا يعرفه أحد


أربعة عشر عاماً مضت على رحيله، ولم يزل «صالح سليم» حاضرًا فى ذاكرة الكرة المصرية، ولم يزل اسمه محفورًا فى الضمير الجمعى لجماهير الكرة المصرية، ومازالت مبادؤه تقف حارسة على القيم الرياضية، فى مواجهة الكذب والغش والفساد والزيف.. لم يكن «صالح سليم» هو أحرف لاعب أنجبته الملاعب المصرية، فلا كان أحرف من «الضظوى» أو «عبدالكريم صقر» أو «أمين رشدى» ولا كان أكثر مهارة من «على أبوجريشة» أو «محمود الخطيب»، ورغم ذلك مازالت شعبيته مستمرة، ومازال حضوره طاغيا لم تتراجع شعبيته بعد اعتزاله الكرة عام 67 رغم أن الاعتزال يطفئ النجومية، ويطوى صفحة الشهرة، هذا هو قانون الطبيعة، الذى يعرفه كل لاعب كرة، وذلك هو سر تردد اللاعبين فى قرار الاعتزال، وسبب البكاء والدموع فى مباريات الوداع.إلا صالح سليم وحده، الذى حطم ذلك القانون، وظلت نجوميته سارية المفعول، بعد الرحيل من الملاعب، والرحيل من الدنيا!

ولعل أبلغ ما تركه من قيمة، هى الصراحة والمصداقية والشجاعة الأدبية، وهى أهم الملامح التى رسمت شخصيته، وحددت هويته، إنها المبادئ التى ألزم بها نفسه أولاً بمنتهى الصرامة، قبل أن يلزم بها الآخرين، وثمة مواقف كثيرة فى هذا الصدد كنت شاهداً عليها، منها أزمة مباراة الزمالك فى الدورى عام 71 والتى تسببت ضربة جزاء اُحتسبت على الأهلى فى إيقافها وقيام أحداث شغب، انتهت بإلغاء المباراة والدورى العام وتحقيقات فى النيابة، كانت النتيجة 1/1 حين انفرد مهاجم الزمالك إبراهيم الدسوقى بمروان حارس الأهلى الذى خرج من مرماه فى كرة مشتركة، وإلتقط الكرة.. وخلال التقاطها وهو طائر فى الهواء «رفس» مروان، إبراهيم الدسوقى فى بطنه، فصفر «الديبة» حكم المباراة محتسبًا ضربة جزاء على الأهلى، فاعترض مروان وأنور سلامة وفؤاد أبوغيدا، ولكن صالح سليم وكان مديراً للكرة، أمرهم بالعودة للملعب والالتزام بقرار الحكم، وحين سجل فاروق جعفر ضربة الجزاء، آثار مروان جماهير الأهلى بمشاركة أبوغيدا، فاقتحمت الجماهير الملعب بعد إشارة من مروان، وحطمت السور الداخلى والكراسى، ووقعت إصابات وتلفيات، واتهم مجلس إدارة الأهلى حكم المباراة الذى هو «الديبة» بالتسبب فى أحداث الشغب، لكن صالح سليم شهد فى تحقيقات اتحاد الكرة، أن الذى تسبب فى أحداث الشغب هو حارس مرمى فريق ه«مروان كنفانى» وقلب الدفاع «فؤاد أبوغيدا»..لم يلتزم صالح سليم بموقف مجلس إدارة الأهلى، ولكنه التزم بما هو حق، من منطلق مسئوليته الأدبية كمدير كرة،والتزامه الأخلاقى الصارم أمام نفسه أولاً ..دون النظر لمواقف الآخرين! ترى أى مدير كرة كان ممكنًا أن يفعلها غير شخص واثق بنفسه، يتمتع بفضيلة الاعتراف بالخطأ، ويمتلك شجاعة مواجهة العواقب، ويدرك أن قيمة الإنسان تتحدد فى المواقف التى لا تحتمل «نعم» وتتطلب لا الجازمة!.

ثقته بنفسه دفعته للتوجه لنادى الزمالك فى اليوم التالى والاعتذار للكابتن محمد حسن حلمى، الذى كان يحظى باحترام وتقدير كبيرين من جانب صالح، وقال حلمى بعدها إن صالح سليم هو أحد الفرسان النبلاء الذين نادراً ما تجود بهم الملاعب.. الروح الرياضية، والهزيمة بشرف، أفضل من النصر الرخيص، تلك كانت قناعته، ولم تكن مجرد شعارات للاستهلاك المحلى، مهاراتالقيادة عند صالح كانت تحدد مواقفه، كان يعرف أن القادة لا تصنعها شهرة ولا وشعبية، ولا مكانة اجتماعية، ولا قدرة مالية، وإنما هى «دور» يؤديه القائد لمصلحة الجموع، تماماً مثل زعامة الدول.الشخصيات الاستثنائية فى حياة الناس، تتكون بتراكم المواقف المبدئية، بقدر دفاعك عن مبادئ عامة، بقدر ما تتحدد قيمتك، كرئيس لنادٍ، أو مدير كرة، أو قائد لمجموعة، فالقائد يقود ولا يقاد، وموقف مجلس الإدارة فى أزمة مروان، كان وراء الجماهير، فى حين كان موقف صالح سليم، أمام الجماهير، لم يأبه بغضب الجماهير إذا كانت على خطأ، ولم يسع لاسترضائها ونفاقها على حساب المبدأ، وعلى حساب الحقيقة.

ذات يوم وقف صالح سليم فى استاد القاهرة، يتلقى الطوب الذى كانت الجماهير تقذفه من المدرجات على رأس الجهاز الفنى يوم هزيمة الأهلى من نادى الطيران، فى الموسم الأول الذى تولى فيه «هيديكوتى» تدريب الفريق، مازلت أتذكر المشهد، حين كان يضع ذراعيه فى وسطه، وكأنه يقول للجمهور اضربونى أنا.. أنا متحمل مسئولية التعاقد مع المدرب، ولن أغير قرارى، كان الجهاز الفنى يختبئ لحظتها تحت «تندة» دكة الاحتياطيين، بينما صالح فى مواجهة الطوب دون أن يحاول تجنبه.هذا مشهد له دلالاته الرمزية، التى لم تخطئها عين، كان مقتنعًا بأن هيديكوتى لم يأخذ فرصته، وكان يرسى مبدأ التخصص فى الإدارة، ومنح المسئول فى أى موقع مسئولية كاملة، ليكون الحساب فى النهاية عادلاً ومنصفاً، لم يكن من المسئولين الضعفاء الذين ينسبون الانتصارات لأنفسهم، ويعلقون الفشل على شماعة الآخرين، والنتائج على شماعة الحكام والمدربين كان ينيب الفشل لنفسه، وينسب النجاح للآخرين.

وحين عرض عليه الفريق مرتجى منصب مدير الكرة بعد عودة الدورى عام 71 سأله أن يحدد راتباً فرفض صالح العمل بأجر، فسأله عن شروطه فطلب ألا يتدخل أحد فى شئون الكرة، فسأله الفريق مرتجى: زى مين؟ قال زى سيادتك! قبل صالح سليم كان كل من هب ودب يتدخل فى شئون الكرة خصوصاً أعضاء مجلس الإدارة، وكان ذلك سببًا فى تردى النتائج منتصف الستينيات حتى توقفت الكرة بسبب هزيمة 67.

وكان صالح صارمًا فى الفصل التام بين مجلس الإدارة وجهاز الكرة، وذات مرة، كنت أشاهد مران الأهلى قبل إحدى المباريات المهمة، حين روى لى أحد اللاعبين مشادة وقعت قبل بدء المران، كان صالح خارج الملعب يشاهد المران حين دخل عضو مجلس الإدارة «رشاد رمزى» ووقف على خط التماس يداعب اللاعبين كما كانت عادته، فإذا بصالح سليم ينهض من مكانه ويتجه إليه ويسأله: حضرتك بتعمل إيه هنا؟ فقال: أنت عارف أنى عضو مجلس إدارة وعضو مكتب تنفيذى.. قال صالح هذه الصفة لا تخول لك دخول الملعب.. سلطتك داخل غرفة مجلس الإدارة.. أما خاجها فحضرتك عضو عامل شأن سائر الأعضاء.

والواقع أن صالح سليم الذى كسر احتكار رئاسة الأهلى على الأثرياء وأصحاب السلطة والسلطان، وبات أول لاعب كرة يترأس القلعة الحمراء، لم يكن عبقرية فذة، ولا قام بمعجزة، الواقع أن عبقريته تمثلت فى اعتدال شخصيته، وتصالحه مع نفسه، يقول ما يفعل، ويفعل ما يقول..كان يهرب من الشهرة، فى الوقت الذى يركض الآخرون وراءها، كان يرفض الوزارة فى الوقت الذى يلهث كثيرون لنيلها..شخصية الشبعان المستغنى..ربما لهذا السبب لم يكن صالح سليم مغرورًا متعاليًا.. كان بسيطاً متواضعاً، إنه نموذج للمسئول الذى يجعل لمنصبه قيمة، وليس للمسئول الذى يستمد من المنصب قيمة.