رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الخير والشر.. مسألة نسبية


ترتيب جدول القيم، يستوجب فيما أعتقد تشخيص حالة مجتمع يعيش ويتنفس على الأكاذيب، المؤسسات تكذب على الناس، والناس تكذب على بعضها البعض، والكذب بات قيمة اجتماعية عليا، مهارة وشطارة ورياضة عقلية، وطوق نجاة فى مواجهة القهر الاجتماعى أو القهر الجماعى! على المستوى اللاجتماعى ثمة كارثة قيمية، الناس مشغولة بالناس، والناس تتلصص على بعضها البعض.

«أنا مؤمن بحرية الرأى، لدرجة أنى على استعداد، لأن أدفع حياتى ثمناً، من أجل أن تقول رأيك!».. هذه أشهر مقولة «لفولتير»، المقولة قديمة، لكنها لم تزل صالحة، وقد أسهمت على بساطتها، فى انتشار قيم الديمقراطية الليبرالية، وحرية الاعتقاد، والتسامح السياسى، والاجتماعى، والدينى والعرقى، كما أسهمت فى نشر ثقافة قبول الآخر، فى مواجهة الثقافات البدائية، رفض الآخر ونفيه وقتله! إنها عبارة واحدة، لمفكر واحد، من مئات الفلاسفة المؤسسين للثورة الثقافية فى أوروبا، من الذين أسسوا لمنظومة القيم الاجتماعية والأخلاقية التى قامت عليها النهضة الغربية.

العبارة تفككت فى كتب كثيرة، وتحولت إلى مسرحيات وأعمال درامية وأدبية، حتى استقرت كقيمة اجتماعية عليا، وهى نموذج بسيط للدور الذى تفعله الثقافة فى تغيير منظومة القيم الاجتماعية السلبية. وتحويل المجتمعات البدائية الفوضوية الخاملة إلى مجتمعات متحضرة ومنتجة. فى الأسبوع الفائت طالبت بثورة ثقافية، لاعتقاد راسخ، بأنها المشروع الأولى بالرعاية، لتغيير منظومة القيم الاجتماعية والأخلاقية السائدة، هذه الثورة تبدأ بتصحيح وتصويب ما هو سائد وراسخ من قيم فاسدة ومتعفنة، وإحلال القيم التى تأسست عليها الحضارة الغربية، وأهمها قيم إتقان العمل وإتقان الصدق، واحتقار الكذب.

فى السبعينيات كتب توفيق الحكيم مقالاً مهماً فى جريدة «الأهرام» طالب فيه بإعادة ترسيم القيم الاجتماعية والأخلاقية، بعدما لاحظ أن المجتمع يعانى من فوضى ولخبطة قيمية، جراء الانفتاح الاقتصادى والاجتماعى، بعد طول انغلاق، ومارافقه من انهيار قيم وفساد ذمم، وتدهور أخلاق. ولو عاش «الحكيم» فى زماننا هذا لقاد ثورة فكرية وثقافية، لإعادة المجتمع إلى رشده، ولأحدث انقلاباً فى أعماله الأدبية، ومقالاته النقدية. والثورة الثقافية فيما أظن، تتطلب ثورة تصحيح لضبط المعانى والمفردات التى تم تشويهها وإعادة تعريفها وفق مسمياتها ومقاصدها الحقيقية!

فنحن نسمع كثيراً عبارة «أخلاقيات المهنة» ونتحدث كثيراً عن «الأخلاق»، وننظم حملة مواعظ لتأديب الناس، ونشر الأخلاق الحميدة، على طريقة «أومو يغسل أكثر بياضاً» ودون أن نفهم أن نشر الأخلاق وتسويقها يختلف عن ترويج السلع ومساحيق الغسيل، أى ليس بالخطب والمواعظ، وإنما بالاقتداء والسلوك والتجربة والخطأ! ضبط المصطلحات يقتضى أن ندرك أن الخير والشر والقبح والجمال والرذيلة والفضيلة والشجاعة والجبن، مسائل نسبية، وأن ثمة أبعاداً أخرى لتلك المعانى، فالجهل شر، والعلم خير، والفن نور، والكذب قبح، والجبن فحش، والفضيلة شجاعة عقل، والرذيلة حماقة عقل. والمعنى أن الأخلاق مسألة نسبية، وأن الحرية قيمة أخلاقية عليا.. وعليه فإن الثورة الثقافية فى مجال سوء التربية وفساد التعليم، تنطلق على قاعدة لمفاهيم، ومصطلحات أخرى، أهمها تحرير العقل المصرى من القهر والقمع والعبودية، القهر التربوى والقمع الفكرى بالتلقين والاسترجاع، علماء التربية انتهوا منذ أمد بعيد إلى أن «التربية» ليست هى «السمع والطاعة» بل هى تشجيع «العقل النقدى» وأن التعليم قائم على نظرية ديكارت، «الشك» فيما هو قائم، لا على اليقين فيما هو سائد والتدريب على حرية التفكير والاختيار والرفض والاعتقاد.وبالقطع لا حرية بلا مسئولية، الحرية المطلقة فوضى مطلقة، ولا مسئولية بغير حرية، وميزة الحرية أن الإنسان لا يكون مسئولاً فقط عما فعل، وإنما يكون مسئولاً أيضا عما لم يفعل. الحرية كفيلة بأن تجعل صاحبها مسئولاً.

إعادة ترتيب جدول القيم، يستوجب فيما أعتقد تشخيص حالة مجتمع يعيش ويتنفس على الأكاذيب، المؤسسات تكذب على الناس، والناس تكذب على بعضها البعض، والكذب بات قيمة اجتماعية عليا، مهارة وشطارة ورياضة عقلية، وطوق نجاة فى مواجهة القهر الاجتماعى أو القهر الجماعى! على المستوى اللاجتماعى ثمة كارثة قيمية، الناس مشغولة بالناس، والناس تتلصص على بعضها البعض، وعمليات التفتيش تجرى للضمائر والنيات على المستوى السياسى، النميمة باتت قيمة اجتماعية، وبرامج التوك شو، والكلام هو الأكثر رواجاً، وأصحاب الحناجر القوية هم الأكثر حضوراً على المسرح السياسى، وبرامج استضافة الفنانين تحولت إلى سلخانات وبرامج تفتيش وتعذيب سادية، لانتزاع الاعترافات، وأنت كمواطن مطالب طول الوقت بالدفاع عن نفسك، وتقديم مذكرات تفسيرية وإيضاحية، لغير ذى صفة، فالناس من حولك تريد أن تعرف أحوالك وأخبارك، والناس فى حالة دفاع دائم عن النفس، ضد عدو افتراضى هو الناس.. والآخرون هم الجحيم كما قال سارتر!

حين عاد الشيخ محمد عبده من أوروبا قال «رأيت إسلاماً، ولم أر مسلمين، وفى بلادنا رأيت مسلمين ولم أر الإسلام» كان يقصد قيم العمل والمصداقية والموضوعية والعقلانية والتسامح والرحمة والانشغال بالبناء واختراع «ما ينفع الناس ويمكث فى الأرض».