رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

Silence.. دعوة للتأمل وطرح الأسئلة المحرمة


لماذا استغرق المخرج ربع قرن فى بلورة وإعداد النص السينمائى لفيلمه؟ وهل ركز الفيلم على الديانة المسيحية فقط أم أنها رمز لجميع الاضطهادات الدينية على مر التاريخ؟
على مر العصور تأرجحت النفس البشرية بين الشك والإيمان وأنين الحياة، وكان يجب أن يبحثوا عن الخلاص فى تنصيب قائد أو قانون أو حتى فكرة، يطرح فيلم silence «الصمت» أسئلة حول الشك والضعف، والإيمان والصمود، أمام الصراعات ودور الله تجاه معاناة مخلوقاته.
تأخر عرض فيلم «الصمت» للمخرج مارتن سكورسيزى، صاحب الإبداعات السينمائية والجوائز الرفيعة، لم تحظ دور العرض بفرض مساحة زمنية كافية لعرض الفيلم أو حتى إتاحة دور عرض متعددة للحدث المنتظر، قضى خمسة وعشرين عامًا لصنع تحفة نادرة من الصور السينمائية وسيناريو يعد الأفضل من حيث الحبكة والصراع وتطور الأحداث والشخصيات.
الفيلم مُستوحى من رواية للكاتب اليابانى «شوساكو إندو» التى صدرت عام 1966 وتدور أحداثها فى القرن السابع عشر، حيث الصراع الدينى على أشده بين المسيحية والديانات الأخرى، خاصة الديانة البوذية التى ركزت عليها الرواية، وقام سكورسيزى بنسج خيوطها الدرامية بحرفية الخبراء.
تدور الأحداث عن الراهبين المسيحيين البرتغاليين رودريجز «أندرو جارفيلد» وزميله جاروبيه «آدم درايفير» اللذين يتفقان على القيام برحلة بحث عن معلمهما الأب فهيرا «ليام نيسون» بعد أن وصلت الكنيسة أخبار مستحيلة التصديق عن اعتناقه البوذية والتخلى عن المسيحية بشكل قاطع، وفى ظل أحلام التبشير التى تراود الشابان فى نشر المسيحية خلال أوساط مضطرة مثل الأوساط اليابانية المنعزلة والمغلقة على ديانتها البوذية المقدسة، أصرا على الرحيل عن طريق البحر لملاقاة مجموعة من فقراء اليابان الذين اعتنقوا المسيحية سرًا وشكوا الله على نعمة وصول الراهبين إلى ديارهما.
يعرض الفيلم قصص التعذيب التى يلاقيها اليابانيون المعتنقون المسيحية تحت نظام عسكرى وطبقى، الذى كان يُعرف باسم «توكوغاوا شوغوناته»، نظام يحتقر الفقراء والمزارعين ويسلبهم أقل حق فى الكرامة والإنسانية، فقد تعددت وسائل التعذيب التى واجهها اليابانيون وقتذاك وربما لم تظهر على شاشة السينما من هذه الوسائل بهذا القدر من السادية والشراسة، فيلجأون إلى التعذيب النفسى أولًا بالاختبار القاسى فى أن يطلب القاضى من المتهم باعتناق المسيحية أن يدهس الكتاب المقدس تحت حذائه وإن فعل يتم إطلاق سراحه وإلا فسوف يقاسى من حرق جسده ببطء، الصلب على شاطئ البحر ليفرغ البحر أمواجه فى جوفهم، ومن وقت لآخر يجبرونهم على ارتشاف الخل أو خمر الساكى اليابانى، وتتمثل أكثر الوسائل قسوة فى تعليق المتهمين بالمسيحية من أقدامهم على أن تدفن رءوسهم فى حفرة مع إحداث ثقب فى الجمجمة ويظل ينزف ببطء حتى يلقى الشخص حتفه.
كل ما كان يرعب الراهبان أن يتم إجبارهما على أن يرتدا عن المسيحية وصنع عبرة منهما للمسيحيين الجدد كما فعل الأب فهيرا. يقاوم الراهب «رودريجز» فترة طويلة من الوقت بعد أن لقى زميله «جاروبيه» حتفه غرقًا دفاعًا عن مجموعة من المؤمنين برسالته، إلى أن تشتد حالات التعذيب على فريقه وتطير رقابهم واحدة تلو الأخرى أمام عينيه فلا يجد إلا سب الإله والدهس على كتابه بالحذاء ومن ثم يرحم الجميع من مصائر بشعة.
لم تنته القصة عند هذا الحد بل هناك من يراقبه يدعى «إينوا»، الشخصية الأكثر سادية وعنفًا من شخصيات العصبة الدينية، حيث يقوم بدور المحقق للتأكد من ارتداد «رودريجز» عن المسيحية فيقابله بالأب «فهيرا» الذى أصبح حليق الذقن ويرتدى الملابس اليابانية الأنيقة وله زوجة وأطفال أيضًا بل أصبح يتحدث اليابانية بطلاقة فى ظل عدم تصديق ودهشة «رودريجز» انصاع الراهب لجميع من حوله وإنما إيمانه فى قلبه.
ما يدعو للتأمل فى فيلم «الصمت» من طرح الأسئلة المهمة عن «لماذا يا الله تدعهم يفعلون بنا هذا؟» ومن السؤال إلى أسئلة أخرى تدور بعقل «رودريجز» بين صراخه بالأسئلة المتوالية الذى يغطيه صراخ المعذبين الذى يطلب لهم الرحمة.
استحق الفيلم الترشح لجائزة الأوسكار لأفضل تصوير، اللقطات السلسة التى تم أخذها فى مساحات خضراء عريضة على مرمى البصر، بالإضافة إلى اللقطات الصعبة التى استطاعت الكاميرا التركيز على انفعالات عدة وجوه معذبة داخل مشهد واحد، ودقة الكلوز/ التصوير عن مسافة قريبة لها كبير الأثر فى متابعة التعرق أثناء الإحساس بالآلام.
أدى كل من اندروجارفيلد وآدم درايفر وليام نسون صراعاتهم بشكل جيد جدًا، نجح كل منهم فى إبراز التعبيرات التى طرأت على أفكارهم ومعتقداتهم والتحول إلى النقيض، بالإضافة إلى اشتراك مجموعة كبيرة من الممثلين اليابانيين فى أدوار المعذبين ويبدو أداؤهم فاق التوقعات بتجسيد المعاناة.
الفيلم لا يحمل لغزًا يدعو إلى التفكير بقدر ما يدفعك لأن تتأمل معاناة المؤمن بعقيدة ما سواء عقيدة دينية أو نهجًا دنيويًا تتبعه.