رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

لقمان الحكيم

لقمان الحكيم شخصية قرآنية فريدة. فلم يتناول القرآن الكريم بالاسم سوى شخوص أنبياء الله، عليهم الصلاة والسلام، وحين تطرق إلى شخصيات أخرى خارج مربع النبوة كان هناك حديث بـ«الكنية» عن العبد الصالح الذى ظهر ضمن تفاصيل قصة نبى الله موسى عليه السلام، وذلك فى بعض المشاهد التى اشتملت عليها سورة الكهف: «فوجدا عبدًا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علمًا». وقد أشار المفسرون إلى أن الخضر هو العبد الصالح الذى حكت عنه الآية الكريمة، وفى مواضع أخرى تجد إشارة غير مُعرّفة أيضًا إلى رجل تقى ينصح الناس بالطاعة، كما ورد فى قوله تعالى: «وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين»، ويشير المفسرون إلى أن الرجل الذى تتحدث عنه الآية الكريمة هو «حبيب بن مرى». الوضع يختلف كل الاختلاف بالنسبة للقمان الحكيم، فقد حكى عنه القرآن بالاسم، والسورة القرآنية التى تناولت رؤاه الحكيمة حملت اسمه: «سورة لقمان»، وهو فى هذا السياق يعد استثناءً ما بين الشخصيات الكريمة التى حكى القرآن عنها بالاسم، شخصيات الأنبياء، إذ لم يكن لقمان نبيًا، والإشارة القرآنية إلى هذا الحكيم الجليل جزء من الخير الكثير الذى يفيض الله تعالى به على من اصطفاهم بزاد الحكمة: «ومن يؤت الحكمة فقد أوتى خيرًا كثيرًا».

فى سياق تعرضه لشخصية لقمان الحكيم ركز النص القرآنى الكريم على ما أوتى الرجل من حكمة، وتناول بعض الخطوط التى تبناها الحكيم فى تربية أولاده، والأسس التى ارتكزت عليها مساهماته فى تكوين شخصياتهم، فى المقابل اهتمت كتب التفسير بتقديم بعض التفاصيل المتعلقة بأصل الرجل وجذوره. فـ«ابن كثير» يذكر فى «البداية والنهاية» أن لقمان كان قاضيًا فى زمن نبى الله داود، ونقل عن «ابن عباس» قوله إن لقمان كان من سودان مصر من بلاد النوبة، وكان أسمر قصير القامة، ونقل عن غيره أنه كان غليظ الشفتين مصفح القدمين، ولا يكاد يشبهه فى الملامح فى زمن النبى صلى الله عليه وسلم سوى بلال بن رباح ومهجع مولى عمر بن الخطاب. يشير «ابن كثير» إلى ما ينقله الأوزاعى عن عبدالرحمن بن حرملة قال: جاء أسود إلى سعيد بن المسيب يسأله، فقال له سعيد: «لا تحزن من أجل أنك أسود، فإنه كان من أخير الناس ثلاثة من السودان: بلال، ومهجع مولى عمر، ولقمان الحكيم كان أسود نوبيًا». ولا يحتاج المتابع لسيرة بلال بن رباح، رضى الله عنه، الكثير من التأمل ليبصر تاج الحكمة الذى جلل شخصيته الكريمة، أما مهجع بن صالح فقد حمل شارة أول شهيد فى معركة بدر، وفيه وفى بلال وغيرهما من المستضعفين نزل قول الله تعالى: «ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشى يريدون وجهه». لم يمتد العمر والتجربة بـ«مهجع» مثلما امتدا ببلال بن رباح، فكان الأخير وريث لقمان فى ميراث الحكمة.

لم يكن الحكيم لقمان أكثر من عبد يعمل فى خدمة ملاك الثروات داخل مجتمعه، فيرعى أغنامهم، ويتولى أعمالهم، لكن الله أراد أن يخلد ذكره، بسبب ما تمتع به من حكمة. يقول الله تعالى: «ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن الله غنى حميد». الحكمة تعنى النظرة الواعية إلى الحياة، والتقييم العقلانى للأحداث والأشخاص، والقدرة على تمييز الحق من الباطل، والصواب من الخطأ، وعدالة الحكم فى القضايا، والإصابة فى القول والفعل. هكذا يمكن أن نحدد معانى متعددة للحكمة، لكن الآية الكريمة أشارت إلى جوهر الحكمة وهو شكر الله. حمد الله وشكره على ما حبا عباده من نعم هو جوهر الحكمة. قد يقول البعض ما أسهل الجلوس على منصات الحكمة إن كان جوهرها كذلك، ويظن هذا البعض أن شكر الله تعالى هو مجرد عبارة يرددها اللسان، يقول فيها المرء: «الحمد لله» أو «الشكر لله». المسألة ليست كذلك، فشكر الله على نعمه يكون بالسلوك والعمل وليس بمجرد القول. يقول الله تعالى موجهًا آل داود الذين كان «لقمان» قاضيًا فيهم: «اعملوا آل داود شكرًا وقليل من عبادى الشكور». فالشكر عمل وليس قولًا يتردد باللسان، لذا كان الشاكرون من البشر قلة، وكان جوهر الحكمة فى تجربة لقمان هو شكر الله تعالى بالعمل، وقد نفع الحكيم نفسه بهذا الشكر.

ارتفع قدر لقمان بين الناس فى الدنيا إلى درجة كانت تثير عجب وإعجاب من حوله. وكان البعض يتساءل كيف لهذا العبد أن يصل إلى ما وصل إليه من مكانة بين قومه؟ لقد كان بالأمس يرعى الغنم ويغنى لها، وها هو اليوم يجلس على مقاعد القضاء والفصل بين البشر. يحكى «ابن كثير» أن رجلًا جاء إلى لقمان وهو فى مجلس أناس يحدثهم، فقال له: ألست الذى كنت ترعى معى الغنم فى مكان كذا وكذا.. فما بلغ بك ما أرى؟ قال: صدق الحديث، والصمت عما لا يعنينى. وعن عبدالرحمن بن أبى يزيد بن جابر قال إن الله رفع لقمان الحكيم لحكمته، فرآه رجل كان يعرفه قبل ذلك، فقال: ألست عبد بن فلان الذى كنت ترعى غنمى بالأمس؟ قال: بلى. قال: فما بلغ بك ما أرى؟ قال: قدر الله، وأداء الأمانة، وصدق الحديث، وترك ما لا يعنينى. لقد كانت المكانة التى بلغها لقمان بعلمه وحكمته مثار استغراب من حوله، وهى تؤشر إلى طبيعة وخصائص المجتمع الذى عاش فيه الرجل، والذى كان يمنح الفرص لمن يمتلك التميز، ويثبت بكفاءته أن بمقدوره الانتقال من موقع إلى موقع أعلى داخل مجتمعه، فمكنه الواقع الذى يعيش فيه من ذلك، ودفع به إلى الصفوف الأمامية. وكان جوهر ارتقائه فى الحياة هو شكر الخالق العظيم على نعمه.. وكأن شكر الله رأس الحكمة.