رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أول مؤتمر مصرى للموسيقى

تحت رعاية الملك فؤاد الأول، تأسس معهد الموسيقى العربية عام 1929، وبعدها بعامين، تمت الدعوة إلى أول مؤتمر للموسيقى عام 1932.
وقام بالدعوة إلى المؤتمر عام 1932 الفنان محمد أحمد الحفني تحت الرعاية الملكية، وكان الحفني قد أتم دراسته للموسيقى في ألمانيا، وكانت الدعوة إلى المؤتمر بهدف الحفاظ على التراث الموسيقي والغنائي وقدمت في المؤتمر بحوث في موضوعات السلم الموسيقى العربي وعلاقته بالسلم الموسيقي الغربي، والمقامات والإيقاع، كذلك قدمت محاضرات عن طرق تدريس الموسيقى وتاريخ الموسيقى.
عقد المؤتمر بمقر المعهد الموسيقى العربية والموجود حاليًا باسم مسرح محمد عبدالوهاب بالإسعاف - شارع رمسيس بالقاهرة.
وقد حضر المؤتمر موسيقى فرنسي هو ألكسي شوتان بصفته عضوًا في الوفد المغربي، وهو فرنسي، كان يعمل مفتشًا للفنون الجميلة الأهلية، ومدير المعهد الموسيقي العربي في الرباط، المعروف وقتها باسم "دار الطرب". 
قام شوتان بتسجيل رحلته البحرية من المغرب إلى القاهرة، في كتاب أسماه "الرحلة الفنية إلى الديار المصرية 1932" وصدر الكتاب باللغة الفرنسية، في نفس العام الذي عقد فيه المؤتمر، وقام بترجمته: عبدالكريم أبوعلو. وقام بتحقيقه ودراسته الدكتور رشيد العفاقي.
وتحدث المؤلف عن الرحلة البحرية، التي كانت تسمع في كل أركانها، غناء عربيًا ذا نغمات، جمعت بين الشدة والحنان، وخلال الليل كانوا يتسامرون حول الموسيقي، وعن فراعنة النيل، وعلو همة جلالة الملك فؤاد الأول، وشرف مقاصده من متابعة السعي بدون انقطاع لجمع العلماء، والذي أعد جائزة مالية طائلة لمكافأة الخطاط الذي يخترع حروف التاج العربية.
أما عن القاهرة فيقول شوتان مؤلف الكتاب، "لقد أتعبتني الحرارة الشديدة الوطأة في رائعة النهار، المعتدلة في المساء، كما أتعبني الضجيج والحركة المستمرة في هذه المدينة، العظيمة بآثارها التاريخية العجيبة، والتي يزيد عدد سكانها عن المليون نسمة، وتختلط فيها جميع الأجناس البشرية وجميع اللغات الشرقية والغربية"، مع أنه وصل في القاهرة في غروب 14 مارس، وهو قمة فصل الربيع، وقبل حلول عيد الربيع في شم النسيم. 
نزل الوفد في نزل "شبرد أوتيل"، وهو من أعظم الفنادق، وفيه مكتب للبريد، وآخر للبنك، وغير ذلك من كل ما يحتاج إليه السائح، ويقصد فندق شبرد.
ثم حضر حفل شاي، أقامه وزير التعليم العام حلمي عيسي باشا، لكل أعضاء المؤتمر في حديقة معهد الموسيقي الشرقي، وهو عبارة عن بناية فخمة شيدتها مجهودات فردية، وتشمل قاعة للمحاضرات مزينة بأجمل زينة ومؤثثة على أبدع نظام، وغرف أخرى للدرس والمكاتب، ومتحف للآلات الموسيقية، ومقهى.
يتحدث المؤلف عن زيارته لمدينة هليوبوليس، ويقول: "إنها بلد حديثة العهد، عدد سكانها 30 ألف نسمة، واقعة على أبواب الصحراء، في شرق القاهرة، وفيها قصور ومنازل عالية جميلة البناء، متسعة الشوارع، لها بعض الشبه بمدينة الرياض، غير أن هندسة بنيانها من الشكل الذي كان استعماله شائعًا قبل الحرب العظمى، وعلى طراز سنة 1900، وتوجد في هذه المدينة كنائس عديدة شامخة البناء من الإغريقية، والقبطية، والكاثوليكية، وغيرها من الملاجئ والمؤسسات الدينية، كالأديرة والصوامع، ويخال أن المسيحية بمختلف مذاهبها، قد استقرت هنا بعد سقوط بيزانتس (بيزنطة)". 
ويقول شوتان، إنه بعد غروب الشمس في الصحراء التي تبتدئ من ضواحي المدينة. وفي المساء "أنصتنا إلى جوق مصري يسمي، جوق العقاد الكبير، يرأسه السيد مصطفى العقاد، الأستاذ في معهد الموسيقي، فأسمعنا أغنيات قديمة، وأخرى حديثة، كلها قصيرة، لكنها جميلة محكمة التلحين، تشتمل على نغمات خلابة، وذات قيمة فنية عالية، فيها قصائد وتواشيح جميلة يغني بها منشد واحد ذو صوت رخيم، وترافقه كمنجة، وطورًا قيثارة، وتارة أخرى عود أو سنتير، وكان السماعون لشدة اغتباطهم، يصيح الواحد منهم آه، أو الله، بأعلى صوته، بحيث يخيل أن صياحه هذا يصعد للسماء السابعة بسرعة البرق الخاطف، والحاصل أن من يفهم شدة تأثر الموسيقى على الشرقيين، لا يتعجب من تنظيمهم لهذا المؤتمر الوحيد في بابه، والمتطلب نفقات طائلة". 
ويقول إنهم في يوم الثلاثاء 22 مارس زاروا الأهرام، وطافو حولها سعيًا على الأقدام، فشاهدوا هناك جمال غروب الشمس، وروعة القمر، ومفعول أشعته الفضية على تلك الهياكل العظيمة التي تثير إعجاب من يراها.
وفي يوم الأربعاء 23 مارس أنصتوا إلى أجواق سورية، ثم استمعوا إلى جوقين من النساء المغنيات الراقصات، فقام الأول بغناء ورقص جميل.
في مساء الخميس 24 مارس أقام الموسيقي المصري الشهير، سامي الشوا، حفلة رائعة، عزف أثناءها على الكمنجة بعض المقطوعات الموسيقية القصيرة، وبرهن عن لطافته ومهارته الساحرة للألباب مع تفوقه الكبير في الفن، هو مشهور ومحبوب لدى الجمهور المصري، هو والآنسة أم كلثوم، إذ يعدهما المصريون افتخارًا وطنيًا. 
وفي مساء الإثنين 28 مارس غنت مغنية الشرق الكبيرة، الآنسة أم كلثوم، التي يتهافت الناس على تسجيل غنائها تهافتًا كبيرًا، فكانت تنشد لنا تلك الجمل القصيرة، وتكررها عدة مرات، بصوتها الرخيم ونغماتها العذبة، وكان بعض المعجبين بها يصيحون بالآهات من أعماق أفئدتهم. 
ويقول شوتان إن هناك من يدعي أن الموسيقى العربية ليست غاية من الغايات، وإنما هي واسطة للسلو (التسلية) فقط وأنا - بالعكس أقول إنها غاية لا وسيلة، إذ لها ماهية ووحدة، يمكن لفن الموسيقي الغربية أن يتزين ببعض محاسنها، وليس في مقدوره أن يحل محلها أو يقتبسها، بأجمعها، دون تغييرها والقضاء عليها.