رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فلنَنشغل بعظائم الأمور


   
لن أخدع نفسى أو قارئى الكريم بادعاء أننى لست من رواد وسائل التواصل، فواقع الأمر أننى من روادها والمتفاعلين معها شأنى فى هذا شأن معظم- ولا أقول كل - البشر. أقر وأعترف بأننى استفدت وما أزال أستفيد من هذا التواصل الافتراضى مع أصدقاء فى كثير من دول العالم. غير أننى والحق أقول لكم أحاول جاهدًا أن أحقق أقصى استفادة عملية خلال تلك الأوقات التى أقضيها يوميا أمام شاشة الحاسوب.
 ورغم استفادتى المباشرة من السوشيال ميديا، والتى أعدها الاختراع الأهم فى القرن الحادى والعشرين، إلا أننى ظللت أتعامل مع تلك الوسائط بحذر شديد، لتفهمى أنها وكما يمكن أن تفيد وتنفع، فإنها فى ذات الوقت تحمل مخاطر عديدة ينبغى على المتعاملين الحذر منها. وأعتقد أننى لن أضيف جديدًا حين أقول إن واحدًا من تلك الأخطار التى يمكن أن يتعرض لها المتعامل مع السوشيال ميديا هو إمكانية الوقوع فى شراك التضليل لكونه عرضة للتأثر بما يروجه بعضهم – عمدًا أو جهلًا – من أفكار أو مواقف أو آراء، والتعامل معها على أنها حقائق دون وعى كاف.
وبغض النظر عن كل تحفظاتى على تلك الوسائط إلا أننى أجدها قد أنجزت دورًا إيجابيًا كبيرًا بحيث تجاوزت وسائل الإعلام التقليدية وعرّفت المجتمع الدولى بحقيقة الأوضاع الإنسانية فى قطاع غزة. ومن حق الشباب العرب أن أعترف بأنهم أدوا الدور الأهم وبذلوا الجهد الأكبر فى إعلام «الآخر» بحقيقة ما يجرى على أرض فلسطين. 
ومع كل تلك النجاحات التى يحققها نشطاء وسائل التواصل الاجتماعى لم ييأس الطرف المعتدى فمضى الصهاينة فى مخططهم لتحقيق هدفهم باستخدام ذات الوسائل لصرف الناس عما يقع من جرائم وحشية ضد الأطفال والنساء والعجائز العزّل من الأبرياء فى فلسطين، ومحاولة شغل الناس عن جرائم منظمة ارتكبها جنود الاحتلال الصهاينة أبادت نحو 38 ألفًا وأصابت نحو 86 ألفًا آخرين منذ السابع من أكتوبر وحتى اليوم.
وخلال الساعات القليلة الماضية فعّل النشطاء هاشتاجا يستصرخ الضمير الإنسانى حمل عنوان «شمال غزة يموت جوعًا» وقد نجح رواد الفيسبوك فى الوصول إلى رقم كبير جدًا خلال ساعات قليلة. قد يقول قائل: وما وجه استفادة الشعب المحاصر الذى ربط الحجارة على البطون ليحتمل الجوع؟ وهنا أقول إن الكفاح ضد المحتل الغاصب يأخذ صورًا متعددة بين السياسى ممثلًا فى مؤتمرات عديدة نظمتها أنظمة عربية كان آخرها مؤتمر الأردن الذى نظمته كل من مصر والأردن. وهناك أيضًا سلاح المقاومة العسكرية التى تقوم بها الفصائل والمنظمات الفلسطينية المقاومة للاحتلال. فضلًا على سلاح الإعلام الحديث بتوضيح الصورة للشعوب المغيبة أو المخدوعة فى الغرب. غير أن السلاح الأهم والأكبر – فيما أرى – هو سلاح الثبات على الأرض والصبر على الجوع والضيم وفقد الأحبة. هو سلاح جديد قديم لا يعرفه إلا الأحرار فى هذا العالم. سلاح يزيد المحتل المجنون سُعارًا فى حين أنه يجعل المعتدى عليه أكثر تشبثًا بالأرض وتمسكًا بخيار المقاومة.
هذا هو حال الإخوة فى أرض الرباط، أما نحن هنا فعلينا أن ندعم الدولة والمنظمات الأهلية التى تقوم بجمع المؤن الضرورية التى يسعون بجد لإيصالها لضحايا العدوان حتى تحفظ للناس هناك حياتهم. ومن لم يستطع فعليه أن يقدم الدعم المعنوى سواء بالدعاء أن يرفع الله الضيم عن الإخوة فى غزة، أو أن يستغل علاقاته عبر السوشيال ميديا لإيصال الصورة الحقيقية لرواد هذه الوسائل فى كل أرجاء العالم بتفعيل هذا الهاشتاج وغيره.
ولأنه عالم افتراضى فهو بلا ضابط ولا رابط، إذ يترك كثير ممن فقدوا الإحساس أمر حرب الإبادة التى يتعرض لها الأشقاء على الحدود ليشغلوا أنفسهم ب«خناقة» بين لاعب وفرد أمن، أو فريق كرة قرر الانسحاب من بطولة بسبب ما يقوله أنصاره من ظلم تحكيمى تعرض له فى مباراة، أو إحياء معركة جديدة حول فتوى قديمة عن إرضاع الكبير، وغير ذلك من توافه الأمور.
وفى كل هذا لغط كبير يضر بالقضية حتى وإن كان غير متعمد، ولكن صنّاعه يرتكبون بجهلهم جريمة كبرى لا تقل فظاعة عما ترتكبه الوحدة 8200 الإسرائيلية التى تستخدم حسابات مزيفة تدّعى الانتماء لعدد من الدول العربية فتعلن باستخدام أسماء عربية وهمية عدم تضامنها مع الموقف الفلسطينى، أو تشكك فى مواقف الدول العربية من قضية العرب الأولى وبهذا يزرعون مزيدًا من الفتن وجبالًا من الكراهية بين الشعوب العربية بعضها البعض لتنصرف الكراهية من العدو الأبرز وينتشر سمها بين العرب أنفسهم.
فيا كل متعامل على الإنترنت ويا كل صاحب حساب على واحد من وسائل التواصل أستحلفك بالله أن تشغل نفسك بعظائم الأمور وأن تنصرف عن تلك الصغائر، فليس هناك اليوم أعظم من قضية وجود شعب عربى أعزل يباد يوميا بدم بارد. وإن كان العالم كله قد اكتفى بالشجب والتنديد والإدانة أو حتى بالمشاهدة، فالأولى بك أنت أن تهتم بأمر أُخوة الدم والدين والعروبة وأن تنصرهم وتدعمهم ماديًا. فإن لم يكن، فبكلمة طيبة ودعاء صادق.