رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عن الذين لم يأخذوا من حجهم إلا المشقة

يحزن المرء كثيرًا وهو يسمع ويقرأ عن أخبار وفيات المصريين فى موسم الحج، وقد لمس العديد من أصدقائى الإعلاميين هذه الوفيات، حتى إنهم أخبرونى أنهم شاهدوا بأعينهم جثثًا لمتوفين على جسر الجمرات قبل أن تنقلهم الإسعاف لمنطقة المغاسل فى منى، وقد حمانى الله من رؤية هذه المشاهد الأليمة، لأننى حين أخرج فى النهار لأداء المناسك وتحسبًا لإصابتى بالإجهاد الحرارى، أرتدى نظارة سوداء وقبعة عريضة وأحمل شمسية، وأسير بسرعة الهرولة وعينى لا تلتفت يمينًا أو يسارًا، فأكاد لا أرى سوى موضع قدمى. 

وقد تابعت عن قرب حالة والد إحدى الزميلات، فرغم أنه رجل ذو حيثية فى المجتمع، إلا أنه خالف القانون وتأشيرة الزيارة، من أجل الحج، وربما لا تكون هذه حجته الأولى نظرًا لمعرفتى بمكانته المحترمة، وقد عرفنا بخبر وفاته ونحن فى منى وتطوعت إحدى الصديقات الإعلاميات لمتابعة إجراءات التعرف عليه، والتأكد من هويته والإقرار بدفنه فى المملكة بعد التواصل مع ابنته وعائلته.

هذا النموذج يوضح أن التحايل على التأشيرات لا يقتصر على فئة معينة تتسم بقلة المال.. لكنه خلل يجعلنا بحاجة للتفكير فى معنى الحج، ومدى إدراكنا للغرض والغاية منه، وكيف نفهم شرطه سبحانه وتعالى «لمن استطاع إليه سبيلًا»، وهل يدخل فى هذا السبيل التحايل على القانون ومخالفته، ونقض العهود، حيث إن تصاريح الزيارة تنص صراحة على عدم استخدامها للحج وكل من يحصل عليها يقر بذلك.. ويتعهد بالخروج من البلاد وقت انتهاء تاريخ تصريحه. 

فبأى عقل ومنطق ودين.. يَقدم الكثير من المصريين على هذه المخالفات؟ وكيف يرمون أنفسهم فى هذه التهلكة؟ لماذا نرضى لأنفسنا بمزاحمة الآخرين والتطفل والتخفى والتهرب من الشرطة؟

يبرر هذه التصرفات البعض بأنه الشوق إلى الحج والارتفاع والمغالاة فى أسعار الحج، تجعل الناس تخالف قوانين دنيوية، وليست شرعية، مع أننا ندرك أن ذلك يعتبر إثمًا، فكما قال الرسول الكريم: الإثم ما حاك فى صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس. ونحن ننسى أن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا، ونقض العهود والغش والتدليس ليست من الطيبات، كما أن الفرائض تسقط فى حالة الاضطرار والخوف، وعدم الإحساس بالأمان وهو ما يتفق مع أحوال التخفى ومداهمة الشرطة لأماكن وتجمعات المخالفين وترحيلهم بطريقة مهينة لبلادهم.. فلماذا هذا الحرص على الحج؟ ولماذا لا نجد حرصًا مثله على تحرى الصدق والأمانة وإتقان العمل.. إلخ. 

ألا يكون هذا الحرص والتضحية بالكرامة والصحة والنفس مجرد شهوة للنفس، وما نتكبد ذلك إلا إرضاء لأنفسنا، ألا نكون بهذا السلوك مجرد مهربين للعبادات مثل مهربى الممنوعات الذين يتوقعون الغنيمة الكبرى، وهى هنا غفران الذنوب ومضاعفة الحسنات.. وفى رحلة المتاجرة بالحج وتكبد المشقة والمجازفة بالنفس ننسى أن نتدبر المعنى الحقيقى للحج، أعتقد أن جوهر الحج هو التسليم لله سبحانه وتعالى، وأن تقوم بأشياء لا معنى لها سوى أن الله أمرنا بذلك، قد تجد فى الصيام أو الصلاة فوائد صحية، الزكاة فوائد اجتماعية، وحفظًا للمالك من ثورات الفقراء، لكن ماذا يعنى أن تطوف بالكعبة وهى حجر، وأنت تدرك يقينًا أنه لا يضر ولا ينفع، وجعل الله حرمة دم المسلم أكبر من حرمتها، ماذا يعنى رمى الجمرات، والهرولة بين الصفا والمروة، والوقوف بعرفة، كل هذه المناسك لا معنى لها عقليًا، ولن تجد من يتحدث عن فوائد ومنافع الحج، كما هو الحال فى الصلاة والصيام والزكاة. 

والحديث عن التعارف والتقارب بين الشعوب أصبح بلا معنى أو قيمة، فلا حاجة بنا للحج لتحقيقها، فالعالم مع التكنولوجيا الحديثة أصبح كله فى حالة تواصل دائمة، الحج لا يعنى سوى التسليم لله، الطاعة لما أمر دون تفسير أو تبرير، دون منطق أو عقل، الله موجود فى كل مكان وزمان ولايقتصر وجوده على يوم عرفة مكانًا وزمانًا، والكعبة ليست بيت الله، أنت بيت الله «ما وسعنى أرضى ولا سمائى، ولكن وسعنى قلب عبدى المؤمن».

وبئس العبد الأجير عبدالدرهم والدينار، وأيضًا بئس عبدالحسنات. تحرص على الحج كى يغفر الله لك ذنوبك، تحرص على الصلاة فى المسجد الحرام لأنها بمائة ألف صلاة، تذهب للكعبة للدعاء بما فيه صالح الآخرة أو الدنيا هذا هو ثمنك، ستحصل عليه، لأن الله لا يخلف وعده، إذا كان هذا مرادك فحسب من الحج فستعود لترتكب الذنوب والمعاصى، وتكون مثل الثوب القابل للاتساخ دائمًا، بهذا المفهوم النفعى للحج يمكن تفسير كل المخالفات التى ترتكب من أجل الحج، يمكن التبرير والعذر والتعاطف. لكن لو أننا فهمنا الحج حقًا ما حدثت كل السلوكيات المخالفة فى الحج من كسر التأشيرة، والتزاحم والتدافع فى الطواف والسعى ورمى الجمرات، وتعريض النفس للهلاك، أنت تريد محو الذنوب وجمع الحسنات، أنت تريد الثواب ولا تريد رب الثواب ولا تكون فائدة من حجتك سوى محو ما فات، وماذا عما هو آتٍ، لا شىء يتغير، ولن يتغير فيك لأنك لم تحج. أنت أديت مناسك الحج، أنت العبد الذى طلب الأجر ولم يطلب الرب، لا يفرق فى هذا أن تكون فى خيمة vip أو فى العراء، ليس الجهاد هو جهاد البدن، الأصعب والمرجو هو جهاد النفس، والحج حجة لك أو عليك، لك إن عرفت الله وأسلمت له حقًا، فتكون عبدًا ربانيًا، حيث حين يضعك تكون، وتكون نعمة وبركة على الأرض، وإذا لم تشعر فى نفسك أنك تغيرت، وجعلت منك مناسك الحج أرق وأرحم وأحن وألطف، وكل ما يعكس صفات الله فيك. 

فلا حاجة لله فى حجتك ولا قيمة لها، وكما أن من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له، ورب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش، أيضًا رب حاج ليس له من حجه إلا المشقة والنصب، والمؤمن يكون حيث وضعه الله، فإن قسم لك حجًا يسره لك بطريقة صحيحة، وإن لم يقسم لك لظروف كثيرة مع شوقك ونيتك مراعاة الله فى سرك وجهرك أخدت الثواب دون جهد أو مشقة، والأهم أن تكون عند الله راضيًا مرضيًا.

وللمشاهدات بقية