رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

لا لتثوير الفكر النقدى لمجرد الحضور الإعلامى

لعل من أبرز أدوار المنظومة الإعلامية الجديدة هي الدفع في اتجاه فتح مساحات وتوفير ساحات لإنتاج آليات إعلامية نقدية وفكرية هامة وبديعة ومؤثرة.. وكأمثلة إيجابية لتلك البرامج: برنامج "الشاهد" الذي يقدمه بمهارة وتمكن حرفي د. محمد الباز؛ لتوثيق شهادات هامة يدلي بها نخبة بديعة من أهل الفكر والرأي والسياسة والاقتصاد، وبرنامج "المشهد" الذي يقدمه الإعلامي المتميز "نشأت الديهي" الذي يقدم كل أسبوع قضية محورية يجتمع على عرضها نخبة رائعة من أهل الفكر والاختصاص المعني بمناقشة أبعاد نجاحاتها وتجاوز مناطق إخفاقها، وفي مجال دعم نشر الفكر الإبداعي تقدم لنا الإعلامية الدكتورة "صفاء النجار" برنامجها المميز "أطياف" لتعود للشاشة المصرية البرامج الاحتفائية بأهل الإبداع وحصاد مشاويرهم..
 لقد آمن أهل الإعلام بأننا في مرحلة بناء دولة حديثة قد بتنا في احتياج لتفعيل آليات تطبيق فكر علمي وموضوعي، والأهم نقدي وابتكاري نبث أدواته وأمثلته لشبابنا، وليس المطلوب الآن تثوير ذلك الفكر النقدي لصياغة معارك ذات جاذبية إعلامية تجارية للشهرة والتلميع غير المستحق لبروز أدعياء المهنية الكاذبة.. 
معلوم أن الذهاب إلى تعريف النقد في أبسط صوره هو تمييز الشيء الغث من السمين، وهذا التمييز يحدث عادة ضمن إطارات تحكمها معايير علمية وموضوعية، بعضها طبيعي تقليدي وغيرها عبر الدراسة الأكاديمية أو الخبرة القرائية المتكونة من توالي الاطلاع على خبرات نقدية سابقة لفنون أدبية كثيرة في عصور مختلفة لكتّاب ومؤلفين متعددي المشارب والاتجاهات الأدبية الإبداعية..
ونحن نعيش مرحلة ننشد فيها تفعيل عمليات التنمية، لا بد أن ندرك أنه لا تنمية حقيقية بدون تنمية العقل والوجدان والفكر، فلا طائل من تحقيق تنمية سياسية أو اقتصادية إذا لم يسبقها أو يواكبها عمل جدي متواصل في مجال دعم كل آليات التنمية للثقافة، اعتمادًا على منظومة تعليمية تدفع في اتجاه إعمال العقل والتفكير والإبداع في كل مراحل تطبيقاتها الحياتية..
قد يبدو غريبًا لو عقدنا مقارنة بين حالنا في زمن محدودية إتاحة التعليم والقيود التي كانت لا تسمح بتوفير بنية تعليمية وتربوية وإبداعية معقولة، ومع ذلك كانت لنا ريادة إقليمية وعربية في الثقافة والفكر التنويري والتعليم، والآن وبعد توفير المزيد من فرص الإتاحة ببناء آلاف المدارس ووفرة الأجهزة والمؤسسات الثقافية والإعلامية، نعاني- للأسف- من وباء الأمية النسبية الثقافية وانتشار المزيد من مظاهر الدجل والفهلوة والجهل!!
نحن في حاجة إلى فكر نقدي يساهم، بل ويدفع جهود التنوير للتفعيل والإضافة إلى رصيد أهل الإصلاح والتنوير الأوائل، فلولا خطواتهم الأولى ما كان لنا أن نحلم بخطوات جديدة عبر مراحل بناء وتأسيس الفكر النقدي في بلادي، كان النقد والحركة النقدية خير داعم وميسر لأجيالنا لقراءة العمل الإبداعي وسبر أغواره وفهم دلالات عناصره وأدواته والمدارس الإبداعية التي ينتمي إليها..
ولعل من المناسب التذكير بالتفاعلات النقدية والفكرية بين رموز الإبداع والفكر "والتي بالمناسبة لم تكن كلها إيجابية ولكنها كانت تشير إلى وجود حياة فكرية ونقدية وتفاعلات وتشابكات إيجابية"..
أذكر- على سبيل المثال- الحوار الذي أجراه الكاتب الصحفي "عبدالعزيز صادق" مع المفكر "سلامة موسى" لمجلة "الرسالة الجديدة" في عددها الثاني الصادر في شهر مايو 1954، وكان يرأس تحريرها الكاتب "يوسف السباعي" وهو في منتصف الثلاثينات من عمره.. قال سلامة مُعربًا عن رأيه في أدباء العصر بشكل قاطع وحاد: "لست أرى فيهم من يستحق لأنهم انفصلوا عن المجتمع الذي نعيشه"، وأضاف: "إن الأدب الحي يجب أن يرتبط بالواقع حاملًا همومه".. وعندما سُئل موسى "هل قرأ لأدباء هذا العصر" قال: "قرأت لهم جميعًا ولم أجد فيهم من يستحق أن يقرأ لهم ويتابعهم أولادنا أو حتى أحفادنا بعد عشرة أعوام"..
نعم، كنا لا نأملها منازلات ومبارزات غير لائقة على هذا النحو، ولكن المقصود من الإشارة إليها- ورغم ما توحي إليه من وجود حوار متشدد بين أجيال الإبداع- أن هناك تواصلا ومتابعات للإنتاج الأدبي والفني من جانب أهل الفكر والنقد، وهو ما نفتقده الآن من متابعات مُعينة لشبابنا على القراءة النقدية للإبداعات المطروحة، وأيضًا متابعة وتقييم الإنتاج الإبداعي للشباب..
إن افتقاد الساحة النقدية بشكل نسبي لوجود الأساتذة والنقاد الكبار جعل من المتعذر على المبدعين الذين لا يجيدون فن العلاقات العامة ولا يمارسون النفاق، أن ينالوا ما يستحقون من تقدير، فالشللية وجماعات المصالح الانتهازية باتت لها الغلبة على ساحات ومنابر الإبداع !!..
لقد بات الناقد المحترف يخشى النقد التطبيقي لما يمثل له كلون من التحدي المهني، لأنه يمكن أن يتكلم بشكل نظري كلامًا بديعًا مثيرًا للاهتمام والجاذبية، ثم تكون المفاجأة عند التطبيق وفضيحة الإخفاق، فتنكشف حقيقة أن كل ما أثاره واستند إليه في محاضراته الحنجورية مجرد تراكمات ثقافية سمعية شفهية في فضاء عدمي!! 
ولعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن المتعلم ذى الحس الناقد لا بد أن يتميز عن غيره بضرورة الابتعاد عن الأخطاء الشائعة باعتبارها مقدمات للبناء عليها!!
يتلاحظ فقدان الناقد الممارس في بعض الحالات الاستناد لمرجعيات علمية معتمدة، والبعض الآخر الذي تسوقه المشاعر والانفعالات الوقتية الزائفة بعيدًا عن ضرورة إعمال المنطق.. أما الأمر الأغرب مَن تتصلب مواقفهم رغم اكتشافهم ما يضعف ما استندوا إليه من قرائن!!
كان لي شرف استضافة المفكر والأستاذ الأكاديمي والمفكر الناقد الراحل الدكتور صلاح فضل، رئيس المجمع اللغوي، عبر حلقة هامة من برنامجي "ستوديو التنوير"، وقد ذكر أن طاقة الإنسان الإبداعية هي كل لا يتجزأ، فيقول: "في مطلع حياتي، عندما كنتُ طالبًا، مارستُ كتابة الشعر والقصة، لكن وعيي النقدي كان أشد حدة من طموحي الشعري، فسألتُ نفسي وأنا ما زلت في العاشرة من عمري، وكان شاعري المفضل صلاح عبدالصبور بعد أحمد شوقي: هل يُمكن أن ترقى بهذا الشعر إلى مستوى (شوقي) و(عبدالصبور)؟ كانت إجابتي قاطعة، فقررت أن أئد موهبتي الشعرية، وقتلتها قتلًا، وأعتقد أنني بذلك أعفيت القراء من كثير من الشعر الرديء أو المتوسط على الأقل"..
إذن هل حقًا كما يُقال إن "الناقد مبدع فاشل" ؟ يختلف "فضل" مع تلك المقولة، يعتبرها "فضل" عبارة مغلوطة، لأن في رأيه الناقد لديه موهبة إبداعية وموهبة في النقد لكنه صريح مع نفسه، ويعي مستوى قوته وضعفه، ويستطيع أن يضع حدًا للتجارب الفاشلة، وكثير من أنصاف المبدعين قد انتبهوا إلى ذلك، وقليل جدًا من الموهوبين العظماء الذين تتوفر لهم الملكة المزدوجة في النقد وإنتاج الإبداع معًا.