رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

لماذا يخضع بايدن أمام إسرائيل؟

فى تاريخ الحروبِ العربية- الإسرائيلية، والفلسطينية- الإسرائيلية، لم نشهد محاولةً لوقف النار أصعب وأكثر تعقيدًا من وقف النار فى غزة. الأسباب كثيرة، وهناك إلقاءٌ للَّوم على الطرفين المتصارعين، إسرائيل و«حماس» أو إحداهما دون الأخرى. لكنَّ كثيرين وبينهم هنا فى العاصمة واشنطن يحمّلون واشنطن والرئيس الأمريكى جو بايدن المسئولية فى وصول الأمور إلى الحد الذى وصلت إليه، دون استخدام النفوذ الأمريكى لوقف الحرب، خصوصًا أن خطر توسعها أصبح كبيرًا فى ازدياد حدة المواجهة بين إسرائيل و«حزب الله» فى لبنان، لكن الإدارة الأمريكية وحلفاءها يعترضون على تحميل الرئيس الأمريكى المسئولية، ويشيرون إلى خطة وقف النَّار التى أعلن عنها الرئيس بايدن.

هذه الخطة غامضة المصدر، هل هى خطة بايدن، أم خطة إسرائيل، تبناها مجلس الأمن، ومع ذلك لم تجر الموافقة عليها رسميًا من إسرائيل بعد؟ وتراوح الحرب مكانَها مع الثمن الغالى الذى يدفعه المدنيون يوميًا؛ ما يزيد الضغط على الرئيس بايدن داخليًا ودوليًا لوقف الحرب، لكن الضغط الأكبر هو الجدول الزمنى لحملته الانتخابية، الذى أصبح ضاغطًا عليه قبل نحو ٥ أشهر من الانتخابات. فلماذا لا يستخدم بايدن نفوذ واشنطن على إسرائيل لوقف الحرب، والسماح له بالتركيز على الانتخابات؟

يتساءل الكثيرون هنا: لماذا لا يقف بايدن موقفًا حاسمًا كما فعل رؤساء أمريكيون من قبله، فى حروب أخرى وأوقفوا الحرب؟ هناك مثلان أمامه، كلاهما يتعلق باجتياحين إسرائيليين للبنان، الأول ١٩٨٢ واحتلال بيروت، والثانى حرب إسرائيل و«حزب الله» واجتياح جزئى للبنان عام ٢٠٠٦.

الرئيس رونالد ريجان، حسب تفاصيل نشرها نائب وزير الخارجية السابق ديفيد هيل فى كتابه- طلب من رئيس الوزراء الإسرائيلى يومها مناحيم بيجن، احترام اقتراح وقف النار، وقال: «قلت لبيجن إنه إذا لم يلتزم (وقف النار) فإنه يمكنه توقع تغيير قاس فى العلاقة الأمريكية مع إسرائيل». وانتهت الرسالة لبيجن بالتهديد «إن العلاقة بين بلدينا على المحك». وأخبر الصحافة بأنه فقد صبره مع إسرائيل. وزير الخارجية جورج شولتز أراد إدانة قوية لإسرائيل، لتحديها الرئيس ريجان، حسب الكتاب.

وعندما لم يرتدع وزير الدفاع الإسرائيلى إرييل شارون، وصعّد بقصف بيروت، اتصل ريجان ببيجن وذكره بما قال فى رسالته السابقة عن تأثير ما تقوم به إسرائيل على العلاقة كلها، وقال له: «إن رمز إسرائيل أصبح صورة طفل ابن ٧ أشهر قطع القصف يديه».

بيجن منع بعدها أى عمل عسكرى فى لبنان دون موافقة مجلس الوزراء، وقام المجلس بسحب صلاحيات شارون فى إعطاء أوامر لسلاح الطيران للقيام بأى نشاط. وافق بعدها أيضًا مجلس الوزراء الإسرائيلى على خطة إنهاء الحرب. لكن بعد ذلك ورغم التطمينات الإسرائيلية وحلفائها من الفصائل اللبنانية، حصلت مجزرة صبرا وشاتيلا ضد الفلسطينيين.

تحكى وزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس فى كتابها «شرف لا يعلى عليه»، تفاصيل التوصل إلى وقف النار بعد حرب ٢٠٠٦ فى لبنان، وكيف أصبحت أمريكا معزولة بسبب دعمها إسرائيل فى الحرب، وكيف قالت لرئيس وزراء إسرائيل إيهود أولمرت: «أنهها»، أى الحرب، بعد قصف موقع تابع للأمم المتحدة فى الجنوب ومقتل العشرات من المدنيين. وأضافت: «بعد اليوم لم تعد لديك أرضية للوقوف عليها. وأنا لن أسمح لك بإسقاط أمريكا معك».

ومثل اليوم كان وقف النار زئبقيًا، ولكن عندما دعا الرئيس جورج بوش مسئوليه إلى اجتماع علم أن نائبه ديك تشينى يعمل من وراء ظهر رايس، ويوحى لإسرائيل بأن أمريكا تؤيد استمرار الحرب مع أن رايس كانت على وشك التوصل إلى اتفاق لإنهائها، فأخذ بوش زمام الأمور شخصيًا. تروى رايس أنه فى اليوم التالى كتب وثيقة بخط يده قال فيها: «إن لدينا الكثير على المحك لنسمح باستمرار الحرب، بما فيه موقعنا فى العراق، ورغبته فى الدفع نحو دولة فلسطينية»، إضافة إلى «عدم التخلى عن قوى الديمقراطية ووطأة قدمهم فى لبنان، وأن نحافظ على أجندة الحرية»، التى كانت أهم برنامج له.

بعد موقف بوش هذا ووصول الرسالة لإسرائيل استطاعت رايس أن تحصل على موافقة إسرائيل على آخر العقبات التى كانت تحول دون التوصل إلى وقف النار، وجرى الاتفاق على بنود القرار ١٧٠١، الذى أنهى الحرب، وزاد عديد قوات الطوارئ، وأدخل الجيش اللبنانى إلى الجنوب.

لماذا إذن- يتساءل خبراء الشرق الأوسط- لم يضغط الرئيس بايدن على إسرائيل ويفرض عليها ثمنًا لما قامت به على مدى ٩ أشهر ولم يغير سياسته، رغم كل ما حدث؟. اختلافه عن الرئيسين المذكورين هو أن موقفه من إسرائيل أيديولوجى وليس سياسيًا فقط. يقول أرون ميللر، الذى عمل على عملية السلام مدة سنوات فى وزارة الخارجية، إنَّ بايدن «لديه التزام عاطفى بالغ لفكرة إسرائيل وشعبها».

والسبب الآخر هو الكونجرس الذى يرفض فرض أى عقوبة على إسرائيل ويتحدى الرئيس. أما السبب الأخير والأهم فهو حملته الانتخابية، وإيمانه بأن وقوفه ضد تصرفات إسرائيل سيكلفه الانتخابات. هذه أمور ربَّما لن تتغيَّر قريبًا، وكذلك الوضع الحالى، وتستمر مأساة غزة وربما يضاف إليها لبنان.

مستشارة فى الشئون الدولية - واشنطن

نقلًا عن جريدة الشرق الأوسط