الانحياز للبسطاء
١٤ ألف وحدة مدعومة فى مدينة بدر لموظفى العاصمة الإدارية الجديدة
وزارة الإسكان بنت ٢٠٠ ألف وحدة سكنية استوعبت كل سكان المناطق العشوائية الخطرة
غياب الدولة عن ممارسة دورها فى العقود الماضية أدى لظواهر مؤلمة مثل سكن المقابر والعشوائيات وكلها ظواهر اختفت الآن
سياسات الإسكان جزء من حزمة سياسات تهدف لمساعدة الفقراء والقضاء على الفقر
الإسكان جزء مهم من منظومة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية التى تتبناها الدولة المصرية منذ يونيو ٢٠١٤
العشوائيات بلغت ٤٠% من مساحة الكتلة العمرانية فى مصر قبل أن يعلن الرئيس الحرب عليها
عندما تقرأ هذه السطور يكون الرئيس السيسى قد أتم افتتاح ما يقرب من ١٤ ألف وحدة سكنية جديدة فى مدينة بدر، هذه الوحدات ضمن ما يعرف باسم «الإسكان الاجتماعى»، وهى وحدات سكنية بسعر التكلفة يتم تقسيط ثمنها على سنوات طويلة، الأغلبية العظمى فى هذه المرة ستكون من نصيب الموظفين العاملين فى العاصمة الإدارية الجديدة، الذين فكرت الدولة فى ضرورة سكنهم بالقرب من الوزارات التى يعملون فيها، وهو نوع من التفكير كان غائبًا عن الدولة المصرية فى العقود التى سبقت «٣٠ يونيو».. من أبرز ملامح فترة حكم الرئيس السيسى عودة الدولة إلى ممارسة دورها تجاه مواطنيها، جزء من هذا الدور هو تلبية حق المواطن المصرى فى مسكن نظيف وآمن، وجزء آخر منه هو التخطيط لنمو سكانى غير عشوائى، وغير قبيح، وغير خطر، وهو نمط النمو الذى سيطر على الإسكان المصرى فى الثمانينيات، والتسعينيات والألفية الثانية، ولم ينته إلا مع السياسات الجديدة التى تبنتها الدولة المصرية وأسفرت عن بناء ما يقرب من ٢٠٠ ألف وحدة سكنية فى فترة ست سنوات، فضلًا عن المدن الجديدة، والمشاريع الخاصة بالإسكان فوق المتوسط.. فلسفة هذا النمو العمرانى كانت الانحياز للبسطاء، والقضاء على الأحياء العشوائية، التى تمددت فى زمن الرئيس مبارك لتصل إلى ٢٩٨ حيًا ومدينة عشوائية «كان يطلق عليها مناطق على سبيل التخفيف»، لقد توسعت هذه العشوائيات حتى بلغت نسبتها ٦٠٪ من إجمالى المساحة المأهولة فى ثلاث محافظات مصرية، وبلغ إجمالى مساحتها فى مصر كلها ١٦٠ ألف فدان، بنسبة ٤٠٪ من الكتلة العمرانية فى مصر، وبتعبير آخر فإن نصف مصر تقريبًا كان ينتمى للعشوائيات.. هذه النتيجة حدثت من غياب الدولة عن ممارسة دورها فى التخطيط والبناء.. حيث كان حى مدينة نصر آخر حى تخططه الدولة فى القاهرة فى الستينيات، ثم انشغلت الدولة بمعركة سيناء، وبعد الحرب تم إعطاء الأولوية لتعمير مدن القناة، ودخل الرئيس السادات تحديات سياسية ومعارك وأزمات منعت الدولة من ممارسة دورها، ومع زيادة عدد السكان، وغياب الدولة ظهر ما بات المصريون يعرفونه بأزمة الإسكان، وظهر تعبير «خلو الرجل» لأول مرة، وكان يعنى أن يدفع المستأجر مبلغًا من المال لصاحب العقار، مقابل أن يحرر له عقد إيجار بمبلغ يتفق مع قانون الإيجارات القديم، وتضاعفت الأزمة فى الثمانينيات، ولجأ بعض المصريين إلى السكن فى الغرف الملحقة بأحواش المقابر القاهرية القديمة، ورغم أنها كانت أكثر آدمية من العشوائيات التى ظهرت فيما بعد، إلا أن بعض الصحف الأجنبية أخذت تخمش وجه مصر وتنشر التحقيقات عن اضطرار المصريين للسكن مع الأموات، وكان ذلك مؤلمًا لكل وطنى مصرى لأقصى درجة، ورغم وجود وزير إسكان كفء ونزيه مثل حسب الله الكفراوى طوال سنوات الثمانينيات، إلا أن الرؤية السياسية كانت قاصرة، ولم يتم بناء مشاريع داخل القاهرة، وإن كان الرجل قد أسس المدن الجديدة.. قبل أن يتم إقصاؤه من موقعه إيذانًا بمرحلة أخرى سيطر فيها الفساد على الإسكان فى مصر، كان من علامات الرؤية القاصرة عدم مد خطوط مواصلات جيدة للمدن الجديدة، وعدم نقل سكان العشوائيات القاهرية لها، كان الذهاب لمدينة ٦ أكتوبر يستغرق أكثر من ساعتين ويتم عن طريق اجتياز شارع الهرم المزدحم دائمًا، ولم تحل الدولة المشكلة ولكن حلها رجال الأعمال المستفيدون من ٦ أكتوبر، بعد أن تضخمت ثرواتهم بما يكفى لتمويل شق محور ٦ أكتوبر، وكان من علامات غياب الرؤية والميل للركود والكسل رفض الرئيس مبارك مد مترو لمدينة ٦ أكتوبر على الهواء مباشرة، لأنه رأى أن من يعمل فى ٦ أكتوبر عليه أن يقيم هناك ولا ينزل للقاهرة! ولم يكن ذلك سوى تعبير عن ميل فطرى لعدم الإنجاز، وعدم الإنفاق على المشروعات القومية، وتفضيل الركون للدعة والراحة حتى بدا وكأن مصر فى إجازة طويلة لا تنتهى، وبتولى محمد سليمان وزارة الإسكان دخلت مصر مرحلة جديدة، تم فيها توزيع الأراضى بالمجان على المقربين، وأهدرت ثروات الدولة، وتسابق الجميع فى بناء المجمعات السكنية على النمط الأمريكى وتم التراجع عن خطة لتسكين أهالى العشوائيات فى المدن الجديدة والتجمعات السكنية «التجمع الأول والثانى والثالث»، وأسس بعض المحظوظين منتجعًا للجولف فى القطامية، وتم هدم عمارات الإسكان الشعبى التى كانت تطل على المشروع، ولا مشكلة طبعًا فى أن يسكن القادرون فى مساكن تناسب دخولهم، كان هذا موجودًا عبر التاريخ، وسيظل موجودًا دائمًا، حيث هذه سُنّة الله فى خلقه، لكن المشكلة كانت فى غياب وزارة الإسكان عن دورها فى توفير سكن للطبقات الشعبية، وتركهم يبنون مساكنهم بشكل عشوائى فى مبان غير مرخصة، يبنيها سماسرة وحيتان بناء مجهولون، ويجنون من وراء ذلك المليارات، فى تجارة غير شرعية، لا يُدفع عنها ضرائب، ولا رسوم، اللهم ما يحصل عليه الفاسدون فى المحليات للتغاضى والتسهيل حتى يتم فرض الأمر الواقع.. كان هذا هو الواقع الذى نعرفه جميعًا حتى تولى الرئيس السيسى، وبدأت الدولة فى تنفيذ رؤية واضحة للإسكان، تقوم على مقاومة القبح، وإزالة الأحياء العشوائية، ومنح شقق سكنية لكل سكانها بإيجار رمزى، مع محاولة تدبير مشاريع يعمل فيها سكان هذه الأحياء، كانت المساكن الجديدة مجمعات سكنية حديثة، لا تقل فى مكوناتها عن مجمعات سكن الأغنياء، مع الفارق فى التفاصيل بالطبع، كانت تضم حدائق، ومدارس، وأندية، وهو ما يعكس اعترافًا بحق هؤلاء البسطاء فى حياة آدمية، وظروف تسمح لأبنائهم بمستقبل أفضل، فالدولة لا تملك عصا سحرية تحول بها مواطنًا ولد ونما فى العشوائيات لمواطن نموذجى.. لكنها تغير واقعه وتعطى الفرصة لطفله أن ينمو فى بيئة سليمة، قد يبدو هذا الأب الذى ربما ارتبط بتجارة محرمة، أو بنشاط إجرامى، غير سعيد بهذا الانتقال من بيئته الأصلية، لكن ابنه الذى يجد المدرسة، والحديقة، والمسكن الصحى هو الهدف، هذا الطفل يستطيع أن يغير واقعه وواقع أسرته بعد أن يتعلم.. هذه هى فلسفة الانحياز للبسطاء.. الـ٢٠٠ ألف وحدة سكنية بتكلفة خمسين مليار جنيه تقريبًا لا تعنى فقط عمارات ملونة، وسكن حديث، هى أيضًا تعنى مجتمعًا جديدًا، تمارس فيه الدولة دورها، مجتمعًا يغمره الضوء، فالعشوائيات لم تكن مرتعًا للجريمة والمخدرات فقط، لكنها أيضًا كانت مسرحًا للتطرف والإرهاب.. أذكر أننى فى أواخر التسعينيات أجريت تحقيقًا عن منطقة عشوائية فى الطالبية تدعى «عزبة فكيهة» قلت فيه إن المتطرفين يحكمون جمهورية فكيهة المستقلة.. الآن تمارس الدولة دورها فى الرعاية، وفى الحماية أيضًا.. إننى أطالب باستبدال مصطلح الإسكان الاجتماعى بتعبير آخر مثل «سكن مصر» أو «إسكان المحروسة»، وأعلم أن هذا العمران المخطط والمدعوم من الدولة جزء من منظومة متكاملة، حيث يبدأ غدًا سحب كراسات الشروط للتمويل العقارى الميسر، حيث يستطيع أى مواطن أن يحصل على وحدة سكنية بفائدة متناقصة ٣٪ يسددها على ثلاثين عامًا كاملة، وهو مشروع مولته البنوك بمئة مليار جنيه، نستطيع أن نعتبرها هدية من صاحب القرار للمواطن البسيط، لقد كانت أموال البنوك تُنهب من قبل، والمئة مليار هذه كان يحصل عليها خمسة أو ستة من الفاسدين كقروض لا تسدد أبدًا، الآن توجه القروض لبسطاء المصريين ليمارسوا حقهم فى امتلاك سكن صحى، وآمن، ونظيف، ولتختفى للأبد عبارة أزمة السكن ومقدم الإيجار، وتمليك فاخر، وتختفى ذكريات مؤلمة مثل سكن المصريين فى المقابر، والعشوائيات القبيحة التى كانت مثل البثور على وجه مصر.. الإسكان المدعوم والمخطط ورقة فى ملف كبير اسمه ملف الانحياز للبسطاء ومحاربة الفقر، وتمكين الأقل قدرة، والوفاء بالحقوق الاجتماعية والاقتصادية للمصريين، وما زالت فى هذا الملف أوراق أخرى كثيرة جديرة بالقراءة.