الأصوليون الأحاديون
«الأصولية» مصطلح يدل على التعصب المتمركز حول الدين والمرتبط بتأويلات خاصة لحقائقه، ويوجد أصوليون متشددون ومتطرفون فى معظم الديانات، وغالبًا ما يعمد «الأصوليون» لاستخدام النصوص المقدسة لإضفاء المصداقية على أطروحاتهم، ولتأكيد هويتهم. والأصوليون يتمسكون بالماضى، ويرفضون كل جديد، ويحاربون العلم ويصرون على عدم تكييف عقيدتهم مع ظروف الحياة وكل تطور، ويصنفون الآخر بوصفه مختلفًا عنهم، ولهذا ينتهجون معه سلوكًا إقصائيًا، ولا يقرون بذهنيّة التسامح والحوار ويستعملون بدلًا منهما القوة والعنف الرمزى.
يقول الفيلسوف الدكتور مراد وهبة: أغلب الظن أن التى مهدت لصك المصطلح الإنجليزى للأصولية سلسلة كتيبات صدرت بين عامى ١٩٠٩-١٩١٥ تحت عنوان «الأصول»، بلغ توزيعها بالمجان ثلاثة ملايين نسخة، أُرسلت إلى القساوسة والمبشرين واللاهوتيين، والأفكار المحورية فى هذه الكُتيبات يمكن إيجازها فى ثلاث أفكار، هى: الجهاد من أجل الدفاع عن الأصول، ورفض النظريات العلمية التى تتناقض مع الإيمان بالوحى الإلهى، ورفض آراء الليبراليين اللاهوتيين، وعندما انتقلت الأصولية الدينية إلى الدول العربية والإسلامية، فإنها لم تكتف بهذه المسارات الثلاثة، بل توجهت رأسًا إلى الجهاد من أجل الاستيلاء على السلطة السياسية، وعلى المجال العام، لتفرض رؤيتها من الداخل والخارج، ومن هنا تولد العنف وصولًا إلى أحداث ١١ سبتمبر سنة ٢٠٠١ وما بعده، ويكمن خطر الأصوليات الدينية فى أنها مُطلقات، والمُطلقات بالضرورة فى حالة صراع إن لم تكن فى حالة حرب، لأن المُطلق بحكم تعريفه هو واحد بالضرورة، ومن ثم فهو لا يقبل التعدد، وإذا تعدد فإن مُطلقًا واحدًا هو الذى يشتهى أن يسود، ومن شأن تحقيق هذه السيادة اشتعال الحروب.
والواقع يقول إنه يوجد فى جميع الأديان من يتوهمون ويزعمون أنهم نواب الله على الأرض وحراس المعبد، وهؤلاء الأشخاص هم فى الأغلب الأعم يتميزون بضيق الأفق لا برحابة الصدر، ويؤمنون بأحادية الرأى لا بتعدده، يتوهمون أنهم اقتنصوا كل الحقيقة المطلقة، ومن ثم يعطون لأنفسهم الحق فى وصم مخالفيهم بالتكفير والهرطقة، ونسى هؤلاء المتعصبون أنه ليس من حق أحد أن يعتبر نفسه وصيًا على فكر أو أخلاق أى أحد، كما أنه ليس من حق أى جماعة أن تتوهم أنها حارسة المعبد أو حامية الإيمان، ومن ثم تُعطى لنفسها الحق فى أن تكفر الآخرين أو تتهمهم بالهرطقة، فليت من يظنون أو يتوهمون أنهم نُواب الله على الأرض، أو حراس المعبد، أو حماة الإيمان، أو أسود وذئاب العقيدة، أن يكفوا عن لعب هذا الدور الذى لن يصنع سوى بطولات كارتونية زائفة، إن الرأى لا يُواجه إلا بالرأى، والحُجة لا تُقارع إلا بالحُجة، والفكر لا يُرد عليه إلا بالفكر، أما أن يُواجه الفكر والرأى بوصم المخالفين بالتكفير أو التخوين أو الهرطقة، فهذا ما لا يمكن قبوله بأى حال من الأحوال، لأن مصطلحات «التكفير» و«الهرطقة» من مخلفات العصور الوسطى البائدة، وقد عفا عليها الزمن.
إن الأصوليين هم أحوج ما يكونون إلى التنوير، لأن التنوير يعنى الجرأة فى إعمال العقل، والتنوير على علاقة تناقض حاد مع الأصوليات بسبب رفضها إعمال العقل فى النص الدينى، مما ترتب عليه رفض الأصوليات للحداثة، لأن الحداثة هى ثمرة التنوير، وحيث إن الحداثة معادلة للثورة العلمية والتكنولوجية التى هى ضمير القرن العشرين، فإن الأصوليات فى هذه الحالة يمكن اعتبارها نتوءًا فى مسار الحضارة الإنسانية، لذا يقول وهبة: إذا تناولنا العلمانية على أنها مسألة معرفية تخص مجال العقل قبل أن تخص أى مجال آخر، فوفقًا لنظرية كوبرنيكس القائلة بدوران الأرض حول الشمس، فمن ثمّ لم تعد الأرض مركزًا للكون، وبالتالى لم يَعُد الإنسان مركزًا للكون، وإذا لم يكن الإنسان مركزًا للكون، فمن ثم لا يكون من حقه الزعم بأنه قادر على قنص الحقيقة المُطلقة، لأن هذا القنص ليس ممكنًا إلا إذا كان الإنسان فى مركز الكون، ومعنى ذلك أن العقل الإنسانى ليس فى إمكانه التفكير بالمُطلق وفى المُطلق، إنما فى إمكانه التفكير بالنسبى وفى النسبى، فهل يتعقل الأصوليون؟!