رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

من قطع المياه إلى قطع الطريق


تئن وتجأر بعلو الصوت فى كل أنحاء الوادى من التعديات وردم جزء من مسارك، والاعتداء على حرم النيل لعمل مراسى لليخوت والمراكب، وبناء فيللات وقصور. تئن وتجأر فى أماكن عديمى الضمير من أصحاب المصانع الذين يصرفون مخلفات مصانعهم مباشرة على مياهك العذبة، مما يسبب أضراراً للبيئة والصحة، فتموت الأسماك ويمرض البشر. كان زمان، وكان يا ما كان يسير المحبون على كورنيش النيل، يتمتعون بسحره وجماله، يجلسون على شاطئه وكلهم أمل فى الحياة والحب والجمال. أما الآن، وفى زمن التجارة فى كل شىء وبأى شىء، استولى الكبار على أراضيك، وأصبحت نوادى ومراسى على النيل، وكله بفلوس كثيرة «واللى مامعهوش ما يلزموش»!

نسمع كلاماً كثيراً من المسئولين عن عمل محاضر مخالفات للمتعدين على النيل، وإزالة التعديات، وتغليظ الحكومة على أصحاب المصانع، وتبدأ الضجة، ثم سرعان ما تخفت! لم نر خطة زمنية تضع رؤية شاملة لعلاج هذه المشاكل. وكما قلنا من قبل لم يعد يصلح حكومات ووزراء الحل قطعة قطعة، ويوم بيوم، مع غياب رؤية شاملة بعيدة وقصيرة المدى. إن علماء العالم يقومون من الآن بالتنبيه ودق ناقوس الخطر حول الفقر المائى والتصحر القادم، والمسئولون فى واد آخر، لا يرون ولا يسمعون، ولكنهم يتكلمون. بل ويصرخ بعضهم: «إن زيادة عدد السكان فى مصر لا يقابلها توسع أو ازدياد فى الخدمات». وكأن المسئولين لا يضعون خططاً زمنية وأعينهم على الزيادة السكانية الطبيعية فى المدى الزمنى للخطة. ويقولون إن قطر مواسير المياه النقية ومواسير الصرف الصحى لا تواكب التوسع فى البناء وزيادة السكان، وزيادة الاستهلاك. وهذا عذر أقبح من ذنب. لأنه عند وضع أى خطة خاصة بالخدمات أو المرافق لابد من حساب تلك الزيادة السكانية، وحساب العمل الافتراضى للمرفق. هل يتم ذلك؟ بالطبع لأ! وإلا ما كانت تنفجر كل يوم ماسورة المياه فى نفس الشارع أو فى الشوارع المجاورة، أو تختلط مياه الشرب النقية بمياه الصرف الصحى فى بعض المناطق، أو تنقطع المياه عن معظم أحياء مصر ومدنها وقراها.

إن بعض القرى فى بعض المحافظات تنقطع عنها المياه بالشهور، ويسير الأهالى مسافات تصل لأكثر من عشرة كيلومترات، لأقرب حنفية مياه نقية، لملء الجراكن ليشرب أطفالهم، أو ليطبخوا بها لسد جوع أطفالهم! هل رأى وسمع المسئولون هؤلاء الأهالى وهم يقولون إن الأمراض الجلدية انتشرت لأنه ليس هناك مياه للاستحمام! هل رأى وسمع المسئولون الأهالى وهم يقولون إن المياه لا تجىء إلا لساعتين فقط بعد منتصف الليل أو فى الفجر، ونسهر الليل لنملأ الأوانى. وأحياناً تبخل المياه علينا ولا تجىء فى الساعتين! هل رأى وسمع المسئولون أهالى الجيزة وهم يصرخون «العيد قادم ولا مياه لدينا». ويرد المسئولون عليهم «ليس ذنبنا، وإن شاء الله ستجىءالمياه بعد فتح المحطة الجديدة فى نهاية هذا الشهر، وستكون قدم الخير عليكم! ينقصنا فى هذه الصورة أن يقتدى أحد المسئولين بمارى أنطوانيت ويقول للمواطنين «لماذا لا تشربون المياه المعدنية؟!» لسان حال الأهالى يقول ارحمونا يا مسئولين.

بعد ثورتين، وبعد اكتشاف غول الفساد والإهمال والاستهتار وتقلص دور الدولة فى توفير الخدمات، لن يصبر الشعب المصرى! فكل الميزانيات الخاصة بالخدمات وحقوق البشر فى الحياة، حق السكن والغذاء والمياه النظيفة، والكهرباء والصرف الصحى والمواصلات والطرق الآمنة، والصحة والتعليم، كل هذه الحقوق على الدولة توفيرها للشعب.

بعد ثورتين لن يصبر الشعب على توجيه الإنفاق الحكومى مرة أخرى لخدمة شريحة لا تزيد على 1% من الشعب. ولن يسمح بهروب كبار ناهبى المال العام دون عقاب، أو تهرب رجال المال والأعمال من الضرائب. هذا غير بدعة ثبات الضريبة عند 22.5%، فى الوقت الذى ينص فيه الدستور على ضرائب تصاعدية على الدخل حتى يمكن توفير الموارد للإنفاق على الخدمات.

قبل ثورة يناير عرف المصريون طريقهم للمطالبة بحقوقهم فى الأجر والعمل والصحة والتعليم بوسائل التعبير السلمية المختلفة. وكان عادة لا يلتفت إليهم المسئولون إلا بعد تجمعهم بأعداد كبيرة ووقوفهم عند باب المسئول فى وقفة احتجاجية تتطور إلى اعتصام أو إضراب حتى تجاب مطالبهم. وعرف الشعب أن قوته فى توحده وإصراره على نيل حقوقه. وأصبحت خبرته التى تعلمها هى أن «الضغط الشعبى هو الذى يلفت نظر المسئول من أجل حل المشكلات».

لذا كان من الطبيعى أن قطع المياه يؤدى إلى قطع الطريق، فالشعب يعرف أن المسئولين لا يتحركون إلا بالضغط. وإحدى وسائل الضغط هو قطع الطريق. وإحقاقاً للحق، المسئول الأول والأخير عن قطع الطريق هم كبار رجالات الدولة والوزارات والدواوين والمصالح الحكومية الذين لا يستجيبون للأهالى فى بداية المشكلة، ولا يضعون خططاً لعلاج الأزمات، ولا يوفرون الموارد لحل المشكلات. ما زالت الحكومات بعد ثورتى يناير ويونيه تنتهج نفس السياسات التى كانت سبباً فى الثورات.