رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

المتغـيرات الدولية والإقليمية وتأثيرها «29»


تناولت فى المقالات السابقة تأثير المتغـيرات الدولية والإقليمية عـلى «العالم العربى»، كى أُبيَن حجم التحديات والتهديدات المؤكدة والمحتملـة ذات التأثير المباشر أمنياً وسياسياً واقتصادياً وعسكرياً واجتماعـياً الموجهـة ضده، لكى أستشرف المستـقـبـل الذى ينبغى أن يتطلع «الوطن العـربى» إليه، وسأقوم اليوم بتذكير القارئ بأهم ما تناولته فى المقالات السابقة من خلال بعـض الحقائق التى تم استخلاصها.

الحقيقة الأولى هى أن مفهوم مصطلح «العالم العـربى» يعـنى أنه مجموعة من الدول والشعـوب المتفـرقة والمتنافرة التى افـتـقـرت إلى الحد الأدنى من التكامل والتعاون والاعـتماد المتبادل، وأن مصطلح «الأصولية الإسلامية» بـدأ يتبلور فى الاستراتيجية الأمريكية كتهديد مـنذ ثمانينيات القرن الماضى، فقد جاء فى تقريـر لجنة التخطيط الاستراتـيجى لوزارة الخارجية الأمريكية «نوفمبر 1988» «أما وقـد انتهت الحرب الباردة بيـننا وبين الاتحاد السوفييتى، فإن مصادر التهديـد البـديلة خلال السنوات المقبلة، ستكون مصادر عـدم الاستقرار فى دول الأصولية الإسلامية والأنظمة السياسية الأخرى غـير المستقرة فى الشرق الأوسط، وعلى حلف الناتو والغـرب أن يكونا مستعدين لمواجهة مصادر التهديد الجديدة «وهو ما يُوضح لنا تصريح أوباما لجريدة «شيكاغـو تريبيـون» قبل توليه إدارة الولايات المتحدة للفترة الأولى، بأنه يخـطط لتوجيه خطابٍ للعـالم الإسلامى بالشرق الأوسط من أحـد العـواصم الإسلامية عـقب توليه المسئولية، فى إشارة واضحة لإعادة هيكلة وتشكيل الشرق الأوسط الكبير حتى ينطبق حدوده عـلى حدود العالم الإسلامى، فالشرق الأوسط يضيق ويتسع تبعاً للاستراتيجية الأمريكية.

والحقيقة الثانية هى أن العالم العـربى قد شهد كثيراً من المتغـيـرات التى تميزت بسرعة وكثافة وتراكم تفاعلاتها، أبرزها تلك التى حدثت فى أعـقاب أحداث 11 سبتمبر 2001، فـقـد تم تحرير واحتلال العـراق، ثم تدمير قوته المسلحة وهدم أركانه ومؤسساته وتقسيمه على أساس عـرقى ومذهبى بين الأكراد والسنة والشيعة، وتم تأجيج الفوضى العارمة فى دول الأصولية الإسلامية أو ما يُطلق عليها دول الربيع العربى، ثم توطين الجماعات المتطرفة والتنظيمات الإرهابية فى دول المنطقة العربية، وهو ما يُعـرَض العالم العربى للفناء أو التقسيم ما لم يؤمن نفسه باستراتيجية عربية موحدة، التى يلزم لبنائها إجراء دراسة دقيقة للموقف الاستراتيجى تخلص إلى تحليل وتحديد جميع صورالتحديات والتهديدات التى تُواجه العـالم العربى «محددات بناء الاستراتيجية» والتحليل الدقيق للمقـدرات العـربية السياسية والأمنية والاقتصادية والعـسكرية والاجتماعـية الحقيقية «مرتكزات بناء الاستراتيجية» وتنتهى إلى رؤية استراتيجية واضحة ورسالة محددة ينبع منهما أهداف استراتيجية دقيقة، ثم يتم وضع الخطط الاستراتيجية التى تحدد أدوات ومراحل وتوقيتات وأنسب الأساليب لتحقيق هذه الأهداف.

وتشير الحقيقة الثالثة إلى أن هناك صراعاً مريراً يُدار بين القوى البحرية «الولايات المتحدة والغرب» والقوى البرية «روسيا والصين»، حول السيطرة أو التواجد الكثيف فى أهم المناطق الإقليمية حيوية، والتى تمنح التفوق لمن يسيطر عليها بحكم موقعها الجيوستراتيجى أو بحكم احتوائها على مسطحات وممرات مائية ومضايق بحرية مهمة يُمكن أن تؤثر فى حركة القوى العالمية الأخرى «المنطقة العـربية ومنطقة شرق آسيا» وهو ما قامت به الولايات المتحدة فى منطقة بحر الصين الجنوبى، حيث تحالفت مع كثير من الدول المطلة عليه وأجرت معهم تدريبات مشتركة للسيطرة على مضيق ملقا لإغلاقه وتجعـل من الصين دولة حبيسة، وبالمثل قامت بتأجيج أزمة أوكرانيا بعـد أن ضمت روسيا شبه جزيرة القرم التى تتحكم فى البحر الأسود والذى يُعـتبر الطريق البحرى الوحيد الذى لا تتجمد مياهه فى معـظم أيام السنة، وربما يتطور هذا الصراع إلى مواجهة مباشرة بين القوى البحرية والبرية، وربما تكون المنطقة العربية هى مسرح إدارة هذه المواجهة بحكم إشرافها على أهم مسطحات وأذرع وممرات مائية «البحرين الأحمر والمتوسط والخليج العربى وخليج عدن، وإشرافها على المحيطين الهندى والأطلنطى».

هذه هى أبرز المخاطر والتحديات التى تواجه المنطقة العـربية، فهل يدرك العرب ذلك، فإن أدرك العرب أنهم أصحاب الحق الحـقـيـقـيـون فى هذه المنطقة، وإن أدركوا أن عليهم وحدهـم حمايـة هذاالحق، فعـليهم أولاً إحلال الفعـل محل رد الفعـل، أى عليهم أن يعملوا على إحلال القوة بدلاً من الضعـف، وعليهم ثانياً أن يستخدموا مواردهم الطبيعـية بـدلاً من إهـدائها للآخرين، وأن يسعـوا إلى بناء استراتيجية عربية موحدة تكون قادرة على مجابهة ما يحيق بهم من أخطار، ولعـل ذلك يتطلب تغييراً جذرياً واستعـداداً فكرياً مختلفاً، ومنظوراً جديداً لتناول الأمور، وبغـير ذلك ستظل المنطقة العربية مرهونة بإحداث مثل هذا التغـيـيـر.

وفى الأسبوع المقبل بإذن الله سأتناول المتغـيرات المحلية التى تقف عائقاً أمام الاستراتيجية المقترحة.