رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

السورى العظيم .. خالد الأسعد



فى 
المشهد السورى الكثير من الصور الفاجعة: أطفال يموتون على الحدود من البرد والجوع. مهاجرون يلفظون أنفاسهم داخل شاحنة مغلقة على حدود النمسا. دمار يقوض كل شيء ولهب يمسك بأطراف البيوت والشجر. لهاث مستنجدين بالغربة من الوطن. لكن ثمة صورة صغيرة لموت رجل عجوز تكثف المعنى المشترك بين الصور كلها، إنه الصراع بين البرابرة والحضارة. هى صورة عالم الآثار العظيم «خالد الأسعد» الذى بذل حياته كلها فى فهم تاريخ الحضارات القديمة وإتقان لغاتها وصون آثارها. تدخل «داعش» إلى تدمر، المدينة التى صنفتها اليونسكو ضمن آثار الإنسانية، وتطالب خالد الأسعد أن يفشى لها مواقع الكنوز الأثرية، فيرفض، فيقطعون رأسه وهو فى الثانية والثمانين من عمره، كما قطعوا فى فبراير منذ عامين رأس تمثال «أبى العلاء المعرى» فى معرة النعمان، ورأس تمثال «طه حسين» فى المنيا، لكنهم هذه المرة يفوزون بالرأس حياً يتطاير منه دم وليس شظايا حجر! تتأمل ملامح العالم العجوز المهذبة ونظرته المستقيمة، وتتساءل: ترى الذى خطر له فى لحظاته الأخيرة؟ هل آمن بأن الحضارة كلها تتجسد الآن فى شخصه، عزلاء، أمام البرابرة؟ إن عليه مهما حدث ألا ينهار، ألا يضعف، ألا يستسلم، لأنه الكلمة الأخيرة فى فم الإنسانية؟ أم تراءت له طوابير الشهداء الذين شنقهم السفاح التركى «جمال باشا» عام 1915؟ أم صورة غسان كنفانى كاتباً مقاتلاً؟ أم ومضت فى خياله سيوف الثورة العرابية التى انكسرت عند الغزو ولم ينطفئ نورها إلى الآن؟ هل لاح أمام عينيه وجه الشاعر لوركا الذى كتب «كيف لهذا الموت أن يحدث تحت ضوء القمر؟» وأعدموه بالرصاص فى 1936؟ أم أن الوقت أسعفه فقط ليستصفى من الذاكرة المضطربة ضحكات أحفاده الصغار؟. الآن، لن نعرف أبداً الكلمات الأخيرة التى تبادلها السورى العظيم مع البرابرة، كما أن أحداً لم يعرف أبداً كلمات سقراط الأخيرة حينما خيروه بين الموت أو التنكر لأفكاره فاختار الموت دفاعاً عن الحياة. إن انتشار «داعش» وتضخمها وحجم معداتها وتنظيمها ومصادر تمويلها يطرح السؤال التالي: هل حقاً تعجز واشنطن عن معرفة كل ذلك أو شيئاً منه وهى التى أظهرت قدرة تجسس مدهشة حتى على الهواتف الشخصية لرؤساء الدول الأوروبية ؟! أم أن واشنطن تعلم وتمول وتحتاج داعش وتصمت؟ فى هذه الحال هل أننا نواجه بربرية داعش حقاً؟ أم أننا نواجه همجية ووحشية القرن الحادى والعشرين بكل تطوره فى سياقه الرأسمالى الأمريكى؟. أظن أنه آن الأوان لكى ندرك أن البربرية والهمجية هى صناعة اليد التى تحرك الدمية من وراء الستار، ثم تلعن الدمية فى العلن! ذات مرة قال تشرشل -رئيس الوزراء البريطانى- « أخشى أن نعود إلى عصر الكهوف على أجنحة العلم الحديث». وهذا ما يخطط له الغرب الاستعمارى، أما خالد الأسعد فإننا نحتسبه فى النور الذى نشره طه حسين، وعبد السلام العجيلى، وقاسم أمين، ونجيب محفوظ، وغيرهم من مصابيح الثقافة والحرية والإبداع ، وبذلك النور سترد سوريا وشعبها كل أمواج الظلام عن أرضها وحضارتها. كاتب وأديب