رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الوصيّة

عبد الفتاح العمدة
عبد الفتاح العمدة

كعادتها، لمحت تغيراً فى تقاسيم وجهه، واستطاعت عيناها أن تقرأ الهم والأسى فى عينيه، بينما كان عائدًا فى وقت متأخر من الليل، فأقبلت عليه سائلة: ما بك يا بُنى؟ فألقى بحقيبته بطول يده وأجابها: لا عليكِ يا أماه.. سأكون بخير بعد قليل.

قالت أعلم أنك حزين لأنك لم تستطع إلى الآن أن تصل إلى ما تطمح ، ولكن الله لن يضيع صبرك معنا بعد وفاة والدك، وإيثارك أن تستر أخواتك بالزواج، على أن تشق طريقك الذى تحب.. لن ينسى الله أبداً أنك فضلتنا على نفسك.. وما كان ربك نسيا..

بدأ يقلّب فى هاتفه، بعدما اغرورقت عيناه بالدمع، خشية أن تراها الأم، ثم قال: وهل تظنين يا أمّاه أننى أردت أن أصل لشىء من أجل نفسى؟ تعلمين.. ما كنت يوما ساعياً نحو هدف إلا من أجلكم، ودونكم لن أسعى كل ذلك السعى فأنا بطبعى زاهد فى الحياة.. ولا أريد شيئاً من دنيا زائلة.

قالت أعلم أن الأسى يغمرك حزناً على فرص ذهبت لغيرك وكنت بها أجدر..لكن الله دوماً يحمل الخير لك فى المستقبل... لا تتسرع ... لعله خير.

قال - وقد بدأ الاطمئنان يسرى فى دمه وصولاً إلى قلبه - الحمد لله على كل حال.. لكنى لست عاجزاً عن فعل ما يفعله أولئك الذين سبقونى.. بل إننى قادر بفضل الله وقوته على أن أكون الأفضل دائماً.. كما أننى أدعو الله سعة فى رزقى.. من أجلكم لا من أجلى.

ثم ألقى بظهره على الأرض، وأغمض عينيه برفق، محاولاً إثناء الدمع أن ينثال من عينيه، قائلاً: والله إنى لعلى استعداد أن أجوع لتشبعوا.. وأسهر لتناموا.. وأتعب لترتاحوا.. تلك وصيّة أبى.. فقاطعته: أدام الله فرحك وراحتك وسعادتك ووسع عليك...«روح يابنى وأنا راضية عليك دنيا وآخرة»..

ثم تابعت: يا بنى لا تحزن.. لعل البركة فى الرزق الخفيف.. وربما خبأت لك الأقدار شيئاً كنت تنتظره.. وطالما سعيت إليه.. لكن تعلق بربك..واقترب منه.. واحفظه فى السر والعلن.. وثق فى كرمه.

أومأ لها برضا لم يسلم من بعض السخط الذى ينتابه على سوء الحظ فى كثير من الأحيان.. وقال: ارتاحى يا أمى.. سأكون بخير.

وقدمت له الطعام، ثم ذهبت لتعاود النوم.. فانسكبت منه بعض دمعات.. بينما جعل يردد فى نفسه.. كم تمنيت يا أمى أن أكون أحد هؤلاء الواقفين على منصة التكريم يوماً.. لأهرع إليك مقبلاً قدمك أمام كل الناظرين.. وأمزج تراب الأرض بدمعى من الفرح أن وصلت إلى أكبر طموح فى حياتى.. وهو تقبيل قدميك لحظة انتصار..!