رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

المتغـيرات الـدولية والإقليمية.. وتأثيرها على المنظور الأمريكى «16»


يخطئ من يظن أن مصطلح الأصولية الإسلامية قد تبلور فى الاستراتيجية الأمريكية بعـد أحداث سبتمبر 2001 عـندما أعـلن «بوش الابن» عـن شن حرب صلـيـبـيـة جديـدة ضد «العـرب ودول الأصولية الإسلامية» لاستئصال الإرهاب الكامن بها، إذ تبلور هذا المصطلح بصدور تقرير لجنة التخطيط الاستراتـيجى للخارجية الأمريكية فى نوفمبر 1988...

 حيث تضمن الآتى «أما وقـد انتهت الحرب الباردة بيـننا وبين الاتحاد السوفييتى فإن مصادر التهديـد البـديلة ستكون مصادر عـدم الاستقرار فى دول الأصولية الإسلامية»، وأرجعـت نشأة هذا المصطلح إلى بعـض الجماعات اليهودية والمسيحية المتشددة وأطلقه الغرب على الإسلام، وأوضحت مفهوم مصطلح العالم العربى بأنه يعـنى أنه مجمـوعة من الدول المتناثرة التى لن تجد لها مكاناً فى عالم الغـد «عالم التكتلات والكيانات العـملاقة» ما لم تُؤمن نفسها باستراتيجية عربية موحدة، والتى تتطلب إعـداد دراسة دقيقة عن الموقف الاستراتيجى أولاً، كى يمكن استخلاص المحددات التى تعـيق بناءها والمرتكزات التى ترتكز عليها، وبدأت بالتقارب الأمريكى- الإيرانى باعـتباره الأكثر تأثيراً على المعادلة الاستراتيجية العـربية فى الوقت الراهن، وفى المقال الأخير تناولت المحدد الثانى وهو الارتباط الاستراتيجى بين الولايات المتحدة وإسرائيل، وانتهيت بطرح سؤالين الأول هو كيف نشأ هذا الارتباط وكيف أصبح ارتباطاً عـضوياً؟، والثانى هو مدى تأثير الارتباط على بناء هذه الاستراتيجية؟

وللإجابة عن السؤال الأول فإنه يتعـين توضيح الإدراك الإسرائيلى والأمريكى، حيث يشير الواقع إلى أن إسرائيل أدركت منذ نشأتها أنها تحمل فى كتلها الحيوية ضعـفاً شديداً، حيث يشكل طول حدودها بالنسبة لضيق مساحتها وصغـرعمقها وضآلة حجم سكانها خللاً فى معادلتها الاستراتيجية، ولجبر هذا الخلل تبنت عدة مبادئ أبرزها ضرورة تحقيق التفوق العـسكرى المطلق بجميع مستوياته على الدول العـربية مجتمعة، والتوجه الجيوبوليتـيكى الجائر بالاستيلاء عـلى أراضى الغـيـر للوصول إلى أقـصى حدود آمنة، ولما كانت قدرات إسرائيل الشاملة لا تمكنها من تحقيق ذلك، فقد سعـت حثيثاً إلى الارتباط بقـوة عـظمى لحماية وجودها وصيانة بقائها ككيان، كما أدركت الولايات المتحدة أن أحد الاشتراطات الرئيسية للاحتفاظ بمركز الهيمنة فى قلبها، وعـدم زحزحته فى اتجاه روسيا والصين هو السعى الدءوب للحيلولة دون قيام أى قوة عالمية أو إقليمية تكون قادرة على التحكم فى المنطقة العربية أكثر الأقاليم حيوية، والتى أمست لا غـنى عنها فى بناء أى استراتيجية عالمية أو إقليمية نشأت فى تاريخ البشرية أو التى قد تنشأ، فإذا كان هذا الشرط قائماً فهل تسمح الولايات المتحدة بأن تكون هذه القوة هى الدول العربية نفسها؟ لذلك فإنه يتعـين الإشارة إلى الحقيقة التاريخية التى تشير إلى أن بريطانيا العـظمى هى التى خلقـت الوطن القومى لليهود فى قلب العـالم العـربى قبل الحرب العـالمية الثانية، لكن الولايات المتحـدة الدولة الأولى التى اعـترفت بها وعـملت عـلى بقائها وضمنت أمنها بعـد هـذه الحرب وحتى الآن، لكى تكون فاصلاً أرضياً يمزق أوصال المنطقة ويمنع وحدتها، وتكون فاصلاً زمنياً يحول دون تقدمها، ونزيفا مزمنا لثرواتها حسبما تقتضى المعادلة الاستراتيجية الأمريكية، إذ يشير واقع هذه المعادلة إلى أنه كلما زادت مصالح الولايات المتحدة فى المنطقة العـربية، والتى تُعـتبر المكون الرئيسى للنسق الإقليمى لمنطقة الشرق الأوسط الذى يضيق ويتسع وفقاً لهذه المعادلة، كلما زاد ارتباطها الاستراتيجى مع إسرائيل، حتى أصبح هذا الارتباط عـضوياً وعاطـفـياً، إلى الحد الذى جعـل الولايات المتحدة تتبنى جميع المواقف الإسرائيلية أمنياً وسياسياً وعـسكرياً واقـتـصاديــاً واجـتماعـياً، ليس فقـط عـلى مستوى النسق الإقليمى، بل أيضاً على مستوى النسق الدولى بمنظماته الدولية، بالقدر الذى يتعـين معه تحقيق الأهداف والمصالح الإسرائيلية، وإلى الحد الذى يمكنها أن تتحدى فيه العالم بأسره مثلما هـو الحال عـندما تحـدت شعـوب العالم ولم توقف حروب الإبادة التى تشنها على الشعـب الفلسطينى فى حروب تكاد تعـصف بالمنطقة وتنآى بها إلى حيث لا يأمل عاقـل، وإلى الحد الذى تغمض فيه عـينيها عن حكم المحكمة العليا الإسرائيلية الذى يقضى بإزالة قرية بأكملها «صوصيا»، وتتغاضى عن استصدار تراخيص هدم 30 منزلاً فلسطينياً بقرية «أبو زايد» بالقرب من أريحا لبناء مساكن للإسرائيليين ما دام ذلك سيؤدى إلى دعـم ركائز الدولة اليهودية، وترسيخ بقائها وصيانة أمنها القومى، وإلى الحد الذى تستخدم فيه حق الفيتو ضد أى قرار يدين إسرائيل، حتى أصبح هذا الحق متوقعاً استخدامه حتى فى أحرج المواقف، فمارست إسرائيل كل أنواع الغـطرسة فى جميع مواقفها التفاوضية مع الآخرين، تلك كانت الإجابة عن السؤال الأول، وفى الأسبوع المقبل سأجيب عن السؤال الثانى بإذن الله.

استاذ العلوم السياسية -جامعة بور سعيد