رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

"حليم وبليغ".. الصديق اللدود.. والعدو الحميم!

الأبنودي
الأبنودي

"حليم – بليغ "، علاقة من نوع خاص جدا، لا يوجد لها تصنيف سوى في دنيا الإبداع، فكلاهما عازف متفرد له مذاق المختلف، صديقان متقاربان إلى حد الذوبان في بوتقة فنية تخرج عملا خالدا، اختلفا إلى حد القطيعة التي استمرت سنوات، ولكنهما في النهاية يعرف كل واحد فيهما قدر الآخر، ويبحث عنه محاولا الاحتفاظ به لنفسه.

ذهل الكثيرون عندما وقف حليم يقدم الموسيقار الشاب في إحدى حفلاته على المسرح ووصفه بـ«أمل مصر في الموسيقى»، لذلك لم يكن غريبا إقامة بليغ عزاء حليم في منزله، وأعلن الحداد لفترة طويلة، فرحيل حليم جعله في حالة ذهول حتى إنه رفض أن يغنى أحد لحنا من الألحان التي ألفها بليغ للعندليب، ومنها أغنية "الحب أحلى من حلاوته مفيش".

الرحلة بينهما طويلة، ولكن أكثر الأعوام ثراء في علاقتهما عام 1965 ، حيث قدما أربع أغنيات ذات المذاق الشعبي وهى: "أنا كل ما أقول التوبة" و"على حسب وداد قلبي"، و"إن لقاكم حبيبي سلمولي عليه" و"سواح وماشي في البلاد سواح" والأغاني الأربع مأخوذة من أربع جمل أصيلة من الفلكلور الشعبي، ومع ذلك فإن الأكثر تأثيرا من وجهة نظري كانت مع نكسة 1967 عندما هزت ألحان بليغ حمدي وأداء حليم وجدان الشعب العربي مع كلمات الأبنودي، حيث قدم ألحانا لأغان مثل "عدى النهار و"أحلف بسماها وبترابها"، وحملت تلك الجمل الموسيقية الحزينة الكثير من أحزان الشعب.

وكان الأبنودي قد كتب القصيدة قبل النكسة  وتقول كلماتها: عدَّى النهار والمغربية جايَّة، تتخفَّى ورا ضهر الشجر، وعشان نتوه في السكة تاهت من ليالينا القمر، وبلدنا على الترعة بتغسل شعرها جانا نهار ما قدِرْش يدفع مهرها. ولم يتمالك حليم نفسه من العزف عند قراءتها ، وأحضر بليغ حمدي، ليتفرغ الثلاثة «لموال النهار».

الغريب أن حليم انتابه حلم متكرر أثناء الإعداد للأغنية وهو أن الناس تحمله فى ميدان التحرير، وهو يغنّى «عدَّى النهار»، والطريف أنه كان يرى نفسه مرتديا جلبابا أبيض، وارتبط الكثيرون بالأغنية وخاصة الزعيم عبد الناصر الذي كان يطلب من الإذاعة إذاعتها بشكل متكرر.

بليغ كان يأمل كثيرا في حليم ويعلم أهمية البحث عن جديد يقدمه معه دائما، لذلك أدخل الموسيقى الإلكترونية في "موعود"، واستخدم آلة الساكس في "زي الهوا".

وكان حليم يريد الاستحواذ على بليغ، حيث البعض يرى أنه لم يكن سعيدا بزواجه من وردة، رغم أن حب بليغ ووردة وصفه الأصدقاء بأنه حب روميو وجولييت، وعندما انتهى هذا الزواج الذي لم يدم سوى ست سنوات بالطلاق، قال حليم لبليغ: مش قلت لك.. جوازك منها ما ينفعش؟ ويقال إن وردة وصلتها الكلمة فاتخذت موقفا عدائيا ضد عبد الحليم حافظ لفترة ما، وتردد في هذا الوقت أن وردة كانت السبب في القطيعة التي حدثت بين عبد الحليم وبليغ، عندما تغنى حليم من ألحان موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب برائعة "نبتدى منين الحكاية" كلمات محمد حمزة، و"فاتت جنبنا" كلمات حسين السيد، ويقال أيضا إن المطربة وردة الجزائرية حاولت منافسة العندليب حليم، وإحياء حفلات الربيع مثل حليم وفريد الأطرش، بعد زواجها من بليغ حمدي، وفطن عبد الحليم لأحلام وردة.

وفى إحدى الليالي، كانت تحيي حفلاً فنيا في دار "سينما قصر النيل"، وتتغنى بأجمل أغنياتها آنذاك ومنها: "العيون السود" و"حكايتي مع الزمان"، وذهب العندليب إلى مكان الحفل ومعه طوق من الورد، وما إن رأى وردة الجزائرية حتى صعد على خشبة المسرح، وصفق لها وألبسها الطوق وسط صيحات الجمهور، وعلى خشبة المسرح قدم العندليب التحية لها، وللجمهور، وغادر الحفل.

وخرج الجمهور وراء حليم، وظلت وردة تغنى للمقاعد، ولم يستطع حليم التحرك من كثرة التزاحم حوله، لدرجة أن الشرطة تدخلت لحل الأزمة وأرسلت سيارة "البوكس" التي كانت تقف على مقربة من سينما قصر النيل، وانتشل أفراد الشرطة العندليب من وسط الجمهور، ودفعوا به لسيارتهم واصطحبوه لمنزله في الزمالك، وأحضروا له سيارته بعد ذلك.

وتغيرت العلاقة بين الثنائي "حليم- بليغ" إلى النقيض تمامًا، وفاجأ حليم جمهوره مرة أخرى حينما وصف بليغ حمدي بـ«الإرهاب الفني»، معللًا ذلك بقوله: حليم تصور أنني لا أهتم به الاهتمام الكامل لتعاوني مع مطربين آخرين، وهذا كان مخالفًا للواقع تمامًا، ثم لحنت أغنية جديدة باسم «هو اللي اختار» ولكن تأخر تسجيلها وخروجها للنور موسما بعد الآخر، وكثر الكلام حول تأخر اللحن فوقع الخلاف الذي استمر لسنوات قليلة»، وتابع: ثم التقينا وتصافى القلبان ونسي عبد الحليم كل ما قيل عن عدم اهتمامي به، وخاطبني بحرارة "مش هغنيلك بعد كده ولا إيه؟"، فأجبته ضاحكًا: أنت تؤمر، لتعود بعدها العلاقة إلى أفضل مما كانت عليه ولم نترك فرصة أخرى لأصحاب النوايا السيئة أن يوقعوا بيننا من جديد.

اتفقا على أن يغني حليم اللحن من جديد، ولكن حالته الصحية كانت بدأت في التدهور وتطلب ذلك سفره إلى الخارج للعلاج، وبعدها توفي عام 1977، ولم تخرج الأغنية للنور، على الرغم من وجود 10 أشرطة كانت تضم بعضها تسجيلات بصوت حليم وأخرى بصوت بليغ حمدي والباقي بصوتيهما معًا، ولم يعرف بليغ مصير التسجيلات بعد رحيل صديقه.

ومن المعروف أن العلاقة بينهما بدأت عام 1957 في فيلم «الوسادة الخالية»؛ حيث كان لحن «تخونوه» هو باكورة إنتاجهما الفني، وبعدها قدم بليغ للعندليب عدة ألحان ناجحة مثل: «خسارة»، «خايف مرة أحب»، «على حسب وداد»، «سواح» وألحان أخرى، أدخلت عبد الحليم حافظ إلى عالم الأغنية الشعبية عن جدارة، وهو الذي تخصص من قبل في الأغاني العاطفية والوطنية.

وأغنية «التوبة»، بدأت فكرتها أثناء خلاف حليم مع بليغ، لكن الأبنودى كان يرى أن بليغ هو الأنسب لهذه الأغنية التي لم يكن قد كتب كلماتها بعد! وذهب الأبنودى لبليغ وأخبره بما حدث، لكن بليغ قال له: «بس أنا وعبد الحليم بينّا زعل»، فرد عليه الأبنودى: «يا سيدى لا بينكم ولا حاجة هو عبد الحليم حافظ وأنت بليغ حمدي»، فصمت بليغ ثم قال: «طيب خلاص علشانك أنت». وذهب الأبنودى وبليغ إلى حليم.

وبمجرد أن رأى بليغ، حليم زال كل شيء، وأكلا وشربا وضحكا معًا، ولم يتحدث أحدهما إلى الآخر ولو معاتبا، وفى اليوم التالي بدأ معا العمل في أغنية «أنا كل ما أقول التوبة يا أبويا ترمينى المقادير».

والمدهش أن الأبنودى، ذهب إلى الاستوديو، ولم يكن قد انتهى من كتابتها، لكنه ارتجلها وهو يجلس مع بليغ حمدى، يكتب «كوبليه» ثم يلحنه بليغ، وهكذا، حتى انتهت واحدة من أشهر أغاني حليم وبليغ والأبنودى، لكن حين جاء موعد تسجيل الأغنية كان عبد الحليم خائفا، ومتوترا في أثناء التسجيل، فقد كان يشعر بأنه يغيّر جلده كله، لدرجة أنه سجلها مرتين ليطمئن قلبه. 

وقد قال حليم عن بليغ : مشكلته أنه يظن أن تلحينه فريد من نوعه، وأنه سيد الأغنية الحديثة، كنت أختلف معه لأنه يزحم نفسه بأكثر من عمل في وقت واحد، ويسرف في التلحين بإسرافه -قبل زواجه من وردة- في العلاقات العاطفية، كنت لا آخذ اللحن وحده من بليغ ولكن قبله وبعده مشكلات، بليغ شخصيًا يعتبرني أخًا، ولكنه لا يسمع رأي أحد، أنه يعطيك أذنه ويفكر بطريقته هو.

ومن المعروف أن بليغ كاد يخسر علاقته بأم كلثوم بسبب حليم، فقبل سفرهما فى إحدى المرات الى المغرب، وعد بليغ كوكب الشرق، أنه لن يمكث هناك سوى 5 أيام فقط، ويعود بعدها لإجراء بروفات اللحن الجديد، لكن بعد احتفالات "عيد العرش" تعرض عبد الحليم لأزمة صحية شديدة، ونقله الملك الحسن لإحدى مستشفيات المغرب، وظل بجواره، وصمم بليغ حمدي على المكوث بجوار حليم لحين شفائه والعودة معه للقاهرة، رافضا السفر فى الموعد الذى حدده لأم كلثوم، وبعد تغيب بليغ عن موعده مع الست، أوعز إليها بعض المقربين، حسبما ذكر الشاعر الغنائى محمد حمزة فى كتابه "الملف السرى" لعبد الحليم حافظ، أن العندليب وراء غياب بليغ حتى يعطّل خروج اللحن إلى النور.

وثارت "الست" وأعلنت غضبها على بليغ، وعاد بليغ من المغرب وحاول الاتصال بأم كلثوم عدة مرات، وفى كل مرة يتلقى إجابة واحدة لا تتغير، مضمونها "الست مش موجودة يا أستاذ بليغ"، وظن بليغ حمدي أن في الأمر شيئا، وسأل بعض أصدقائه عن تغير الست معه، فأخبروه أنها غاضبة منه لسماعه كلام عبد الحليم حافظ وعمله على تعطيل البروفات، فأحضر بليغ الصحف المغربية التي كتبت عن حادثة مرض عبد الحليم في المغرب، والصور التي نشرتها، وقام بجمعها، وذهب بها إلى الست وأخبرها بما حدث فسامحته.

أما أغنية "المسيح" غناها العندليب الراحل عبد الحليم حافظ في قاعة ألبرت هول في مدينة لندن أمام أكثر من 8 آلاف متفرج بعد حرب 1967، وتبرع بأجرها لصالح المجهود الحربي، كتب كلماتها الشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودي ولحنها بليغ حمدي ووزع موسيقاها علي إسماعيل، ومن أجلها ذهب حليم للأزهر الشريف لإجازتها فطلبوا تعديل بعض الكلمات واستطعت إقناعهم بالبعض، أما جملة "صلبوه نفس اليهود" فأصروا على تعديلها فبدلتها بخانوه نفس اليهود، وبالفعل أجيزت الأغنية ولكن بشرط ألا تغني إلا في الحفل الذي سيقام في لندن وغناها حليم على مسرح "آلبرت هول" بلندن وطلبوا العرب من المستمعين إعادتها ثلاث مرات، وبالفعل نفذ حليم طلبهم وأعاد غناءها رغم صعوبتها.

وتعرض حليم لمحاولة اغتيال من يهودي بسبب هذه الأغنية.

يا كلمتي لفي ولفي الدنيا طولها وعرضها
وفتحي عيون البشر للي حصل على أرضها
على أرضها طبع المسيح قدمه
على أرضها نزف المسيح ألمه
في القدس في طريق الآلام..وفي الخليل رنت تراتيل الكنايس
في الخلا صبح الوجود إنجيل
تفضل تضيع فيك الحقوق لامتي يا طريق الآلام
وينطفي النور في الضمير وتنطفي نجوم السلام
ولامتي فيك يمشي جريح..ولامتي فيك يفضل يصيح
مسيح ورا مسيح ورا مسيح على أرضها
تاج الشوك فوق جبينه وفوق كتفه الصليب
دلوقت يا قدس ابنك زي المسيح غريب غريب
تاج الشوك فوق جبينه وفوق كتفه الصليب
خانوه... خانوه نفس اليهود
ابنك يا قدس زي المسيح لازم يعود..على أرضه

والطريف أن العندليب وبليغ كليهما كان يتدخل في حياة الآخر بدرجة كبيرة، إلى حد أن حليم ذهب مع بليغ حمدي إلى أحد الحاخامات في باريس، وهو رجل متخصص في السحر وطرد الأذى والشر والشياطين، وأعطاه حجابا، وفي التليفون طلب من شقيقته السيدة "علية" إحراق المخدات والمراتب، وشراء بدلا منها، فقد قال له أحد السحرة هناك، إن الشر كله يكمن تحت المخدة وتحت المرتبة.