رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مجد كنيسة الإسكندرية


بعدما تأصلت المسيحية فى نفوس المصريين عامة، وأخذت مكانتها الثابتة الدعائم فى صدور الشعب السكندرى فى أثناء فترة العصر الرومانى، وشيئاً فشيئاً أصبحت مدينة الإسكندرية أول مركز منظم لأول كنيسة فى العالم مكتملة الصفوف والرتب الكهنوتية بدرجاتها المختلفة «أسقف – قسيس – شماس»، كما أصبحت مركز الفكر المسيحى فى العالم المتمدين كله. وكما يقول المؤرخ السكندرى القدير الأستاذ الدكتور عزيز سوريال عطية «1898 – 1988م»: «إنه من الخطأ أن اعتبار زوال عرش البطالمة من الإسكندرية كان نذيراً بانحدارها إلى الانهيار»، لأن مجد الإسكندرية الروحى فى العصر المسيحى، احتل ذلك المكان الذى كانت تفاخر به إسكندرية البطالمة فى المجد السياسى. فالمدرسة اللاهوتية – التى أسسها القديس مرقس – والتى كان من عمدها العلاّمة «أكليمنضس» السكندرى، والعلاّمة «أوريجانوس» الفيلسوف الأفلوطينى، حلت فى أواخر القرن الثانى الميلادى محل الأكاديمية القديمة، موطن المُعلمين والفلاسفة من الأغريق، وأصبح كبار المفكرين المسيحيين يأتون إليها من كل أنحاء المسكونة للتزود بالمعرفة الرصينة التى كانت ثابتة بها.

فى عصر الاضطهادات الذى جاء عقب انتشار الديانة المسيحية، والذى رفض فيه المسيحيون بإصرار مبدأ عبادة القياصرة، تحمل السكندريون بصفة خاصة والمصريون بصفة عامة صنوفاً مروعة من العذاب والقتل، بلغت أشدها فى عهد الطاغية «دقلديانوس»، حتى إن القبط أرخوا تقويمهم القبطى بتاريخ الشهداء منذ اعتلاء هذا الطاغية عرش الإمبراطورية الرومانية سنة 284م فكان ذلك بمثابة نصب تذكارى أقامه الأقباط شهادة على شجاعتهم. ولكنهم ينتصرون فى النهاية عندما أصدر قسطنطين الكبير سنة 313م مرسوم ميلان بالتسامح الدينى. لذلك من الخطأ وعدم المعرفة التلاعب ومحاولة التغيير فى ذلك التقويم الثابت الأركان.

انتصار المسيحية الأرثوذكسية السكندرية على الوثنية والهرطقة الأريوسية أحاط المدينة بهالة من النور والمجد، وأصبحت فى نظر الخاص والعام تُعتبر العاصمة الروحية للعالم المسيحى، فكان هذا من أسباب الحسد والحقد التى اضمرتهما بيزنطة لها. وبيزنطة هى مركز الإمبراطورية ومصدر السلطان السياسى فى العالم. لذلك لم يستسغ البيزنطيون تسامى كنيسة الإسكندرية على الكنيسة البيزنطية وبلوغها مركز الزعامة والقيادة الدينية من العالم الرومانى، فى حين أن الإسكندرية ومصر كلها ما هى إلا ولاية تابعة للقسطنطينية، فنشأ عن ذلك صراع مذهبى بين الإسكندرية والقسطنطينية. وفى طيات هذا الصراع المتصل أخذ الوعى القومى المصرى فى التنبه لأول مرة منذ انهيار الإمبراطورية المصرية القديمة، فأعلن المصريون العصيان على كل شىء أغريقى فى بلادهم، وتحولت المسألة إلى مسألة تصارع جنسين: المصريون من جانب يحرصون على وطنيتهم واستقلالهم، والإغريق من جانب آخر يعملون على مقاومة المصريين بكل الوسائل. فريق يتبعون بطريركهم المنتخب من بين صفوفهم رغم تحذيرات القسطنطينية، ومجموعة قليلة من الإغريق المقيمين بالإسكندرية وبعض المدن الأخرى يعتمد عليهم الإمبراطور فى تعيين بطريرك ملكانى تابع له. وانتهى الأمر أن يصبح البطريرك «الملكانى» حاكماً عسكرياً دينياً كما كان «المُقوقس» قبيل الفتح العربى لمصر عام 641م.

بميلاد القومية المصرية فى حضن كنيسة الإسكندرية، أخذت هذه النزعة الاستقلالية المصرية أشكالاً متعددة منها: العمل على تطهير لغة البلاد القبطية من الألفاظ اليونانية الدخيلة، إحياء الأدب الشعبى القبطى، البحث وتحرير الفكر المصرى من النفوذ الإغريقى. وقد كان من أكبر الدعاة لحركة القومية المصرية القديس الأنبا شنوده رئيس المتوحدين «333 – 451م».

أستاذ الهندسة - جامعة الإسكندرية