رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

يسري أبو القاسم يكتب:قصص قصيرة عن روايات كبيرة ..

الرباط المقدس قصة راهب الفكر وتاييس عن رواية لتوفيق الحكيم

توفيق الحكيم
توفيق الحكيم

كان عابدا ناسكا فى محراب الفكر لا يشغله ما يدور فى خلد غيره من الرغبة فى ملذات الحياة ونشوتها، ولم يكترث لمباهج الدنيا وزخارفها، يبدأ يومه بمطالعة الصحف، ثم ينكب على القراءة والكتابة حياته فى تلك الغرفة المشحونة بالكتب الوافدة من مشارق الأرض ومغاربها لا شمس تسطع فى غرفته، فيقينه أن شمس الحقيقة تكمن بين جدران مكتبته فهى شمس لا تغيب، وبينما هو يفض إحدى الرسائل وقف عند تلك الرسالة التى تقول صاحبتها إنها ترغب فى تعلم الأدب بل واحترافه على يد راهب الفكر لم تذكر اسمها ولا عنوانها ولكنها تركت تحديد موعد اللقاء لمحادثة تليفونية، وكان لها ما أرادت هى فتاة فى نهاية العقد الثانى ممشوقة القوام يسبقها عطرها الفرنسى، خلعت معطفها الفاره ونظرت إلى النافذة المغلقة كصاحبها قال لها يكفينا نور الحقيقة الذى بداخلنا بعد أن ترك الكتاب الذى بين يديه، وسألها عن سر قدومها ليتأكد من فحوى رسالتها فقالت أحب التنس وخطيبى يحب القراءة وأود أن أكون جديرة باحترامه، ثم أخرجت أحمر الشفاه من حقيبتها ولونت شفتيها اللتين لا تحتاجان إلى أصباغ يكفيهما لون الفراولة الربانى ثم أشعلت سيجارة.

اندهش راهب الفكر من سلوكها فإصبع الروج مكانه غرفة النوم لا صومعة الفكر، كما أنه مازال يعتقد أن المدخنات ساقطات ولابد أن يخرج تلك اللعوب فورا، هدأت من روعه وامتصت غضبه أن لديها رغبة فى تغيير حياتها للأحسن على يديه وألحت فى طلب مساعدته فما كان منه إلا أن أعطاها كتاب "راهب تاييس" ربما لأنها تشبه "تاييس" تلك الغانية التى مارست البغاء أينما حلت فهى والرذيلة وجهان لعملة واحدة، فلا مقاومة للرجال أمامها حتى ذاك الراهب القابع فى صومعته بعيدا عن الخلق يتعبد إلى الله شغلت فكره عن ذكر ربه فنزل من عليائه يبحث عنها لكى يحولها من ساقطة فى بئر الرذيلة إلى محلقة فى فضاء الفضيلة هكذا هداه عقله أو شيطانه، ولما التقاها نصحها بالتوبة ورويدا رويدا خلعت عنه مسوحه وانجرف فى غواية لم يتخيلها أحد ونسى صومعته ونسكه. أما المدهش فى الأمر أن "تاييس" تابت وأنابت وعادت لربها فترتقى إلى أعلى عليين بعد أن قذفت به إلى أسفل سافلين.

هذه هى قصة "تاييس" التى بين دفتى الكتاب الذى حملته الجميلة بين ذراعيها ورحلت على وعد بالقراءة ثم العودة بعد أسبوع. انصرفت الفتاة ولكن بقى عطرها المختلط بطعم أحمر الشفاه ودخان السجائر وشيئا آخر يتحرك فى قلب الرجل.

إنه ينتظرها يتخيلها بين كتبه وجدران قوقعته تجرى بدلع بين سطور أوراقه، كيف استطاعت أن تسلب ولو جزءا من عقله الذى أبى من قبل أن يسلب؟ انقضى الأسبوع بشق الأنفس وجاء الربيع مختالا يلقى بخريف الرجل بعيدا. تفتح النافذة التى لم تفتح من قبل يدعى أن عقله مشغولا عنها، والحقيقة أنه كله مشغول بها سألها: هل قرأت؟ مازحته فاقشعر بدنه وضبط قلنسوته ربما ليحافظ على اتزان عقله ثم نهض وأمسك بعصاه ليضبط قوامه وردد بداخله كلمات لن أكون "راهب تاييس".

علم أنها لم تقرأ، غضب ولكن حروفها المثلجة أطفأت ناره فى لحظات حين قالت إنها عازمة غير عازفة عن القراءة ولكنه الصبر وطلبت فرصة والحقيقة أن للجميلة ألف فرصة فى قلب المحب وألف ألف عذر فى عقله. بعد يومين دق جرس الباب، فظهر شاب وسيم سلم على راهب الفكر بحرارة وأخبره أنه من قرائه، وأنه طبيب كان فى زيارة لمريض بنفس العمارة واقتنص الفرصة لرؤيته كما شكره لأن زوجته أحبت القراءة بسبب كتبه بعد أن كانت منشغلة بالتنس لدرجة أنها أنهت رواية "تاييس" فى يومين، ألقى الشاب بكرات اللهب فى قلب الرجل وانصرف، إذن هى كذبت عليه قالت إنها مخطوبة وهى متزوجة قالت لم أقرأ وقرأت ماذا تريد تلك المرأة؟ من رجل تخلى عن الدنيا طواعية وانشغل بنفسه فى حجرة صغيرة تاركا لأهل الدنيا ربوعها الواسعة هل تراه كرة تقذفها بمضرب التنس الذى فى قبضتها؟ ولما عادت نهرها وطردها من بيته ولكنه للأسف لم يقدر على طردها من قلبه. شهور مرت ثقيلة كالرحى وراهب الفكر مشغول بـ"تاييس" يرفع سماعة التليفون الذى كان من مهام خادمه، فإذا بصوت آخر ليس صوت "تاييس" يجرى ليفتح الباب لكنه شخص غير "تاييس" ضاقت الدنيا براهب الفكر وأراد أن يستجم فذهب إلى فندق بحلوان. وبينما هو جالس يفكر فى ألا يفكر فيها فإذا بزوجها على مقربة منه يحادث شخصا بعصبية، إذن هى هنا انتشى راهب الفكر يا لها من صدفة عظيمة لكن الزوج مر من أمامه ولم يحادثه هل أخبرته بشىء أم أنه قد نسيه؟ ولكن راهب الفكر تذكر أنه شخصية مشهورة فكيف للرجل أن ينساه حتى شهرته قد نسيها بسبب "تاييس".

وفى اليوم التالى اقتعد راهب الفكر كرسيا تحت أشعة الشمس فى انتظار خروجها فلم تأت، ولكن جاءه زوجها سلم عليه واعتذر عن تجاهله بالأمس ووضع بين يديه كراسة حمراء مكتوبة بخط يدها حملها راهب الفكر وصعد إلى غرفته، يا لها من امرأة غانية مجنونة، إنها اعترافات بالحب والعشق والجنس أيضا، ألقى بالكراسة على الأرض وأخذ يسبها ويلعن تلك السويعات التى أجلسها فيها بين كتبه الطاهرة. ولكن لماذا هو مغتاظ هل لأنها خانت زوجها أم لأنها خانته؟ هو أيضا آثم لابد أن يصارح ذاك الزوج المخدوع ولكن بماذا يصارحه وهل صدر منه شىء بواح، إنها أحاسيس داخلية ولكن حتى هذه الأحاسيس ما كان يجب أن تكون لابد من المصارحة ربما للإطاحة بهذا الذنب من على كاهله أو ليقول له إنه مخدوع مثله هل هو جان أم مجنى عليه؟

أسئلة كثيرة وكبيرة كادت أن تفتك بعقل الرجل ولكنه استقر فى النهاية على ألا يقل شيئا حفاظا على هيبته ووقاره. طلب الزوج من راهب الفكر أن يحادث زوجته ويخبرها أنه يرغب فى الطلاق شريطة أن يضم ابنته إليه حتى تكمل حياتها فى بيئة نظيفة، حاول راهب الفكر التنصل من المهمة الثقيلة، لكن الزوج أخبره أن صديقه الوحيد الذى كان بصحبته بالأمس كان هو المكلف بالمهمة إلا أن اسم زوجته ورد بالكراسة، إنها أيضا خائنة وهو فى الهم مشترك وليس هناك شخص يؤتمن أكثر من الأديب المحترم خاصة والأمر متعلق بالسمعة والشرف. حصل راهب الفكر على رقم الهاتف وحادثها، جاءت إليه ثم جلست على كرسى المحاكمة.
 
كان راهب الفكر يحاكمها لا يعرف انتقاما لزوجها أم انتقاما لقلبه المشطور، عرض عليها طلب الزوج البائس لكنها رفضت بحجة أن ما كتبته ليست اعترافات لكنه فصل من فصول باكورة رواياتها. سخر الراهب من دفاعها فالشخوص هم الشخوص والزمن هو الزمن والمكان هو ذات المكان بررت ذلك أنه نوع من الإبداع وبراعة فى الكتابة فهى تلميذته النجيبة، ثم بكت فحرقت دموعها خده وكوت قلبه فتراجع عن دور الادعاء وأوشكت أحاسيسه أن تلبسه روب المحامى، ولكنه عاد إلى منصته مرة أخرى وقدم إليها ورقة التنازل عن ابنتها وإلا فالفضيحة تنتظرها فزوجها مصر على موقفه خاصة أن هذه الكراسة بها اعترافات مكتوبة بخط يدها وهى كفيلة أن يحكم له القاضى بضم طفلته.

انصرفت ولم توقع ولكنها أوقعت قلبه فى شباك الحزن، فأرسل للزوج يهدئ من روعه ويثنيه عن موقفه ويشرح له وجهة نظرها أن سطورها ليست اعترافات بل عمل أدبى، فرفض الزوج تبريرها فلم يعد ذلك يجدى، خاصة أن صديقه انتحر بسبب شكوكه فى زوجته التى جاءت عبر سطورها الحمراء. ذهب الزوج وجاءت تاييس، جاءت كعادتها تصحبها عطورها وسجائرها غير مبالية ولا مهتمة وقعت على الورقة وضحكت، ثم قالت أنا الآن حرة أفعل ما يحلو لى ولدى اليوم سهرة حمراء مع شخص أحبه ويحبنى، فرد عليها راهب الفكر مغتاظا كما يحلو لك، فجلست على مكتبه واقترب جسدها الفائر من جسده الجائع وكتبت له ذلك الشخص هو أنت، اقتربت منه لتقبله، فدنا منها لكنها وقفت شامخة، وقالت له أنا يا سيدى امرأة شريفة ولم ولن أخون زوجى وما كتبته ليس إلا عملاً أدبياً نتج عن أحاسيس ولدت بسبب تجاهل زوجى الذى يعاقبنى الآن، عذرا أيها الراهب فلقد ارتقت تاييس درجات بينما انحدرت أنت دركات، تركته ومشت، فطرد عطرها ودخان سجائرها وأغلق النافذة وانكب على كتبه، فإذا برسالة من معجبة ترغب فى تعلم الأدب فما كان منه إلا أن مزقها بسرعة وكأنه يتخلص من مس شيطانى.