رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

العلاقات الدولـيـة المصـريـة بين التقارب والتباعـد «8»


المراقب لتفاعلات السلوك السياسى التركى يمكنه إدراك مغـزى تلكؤ تركيا فى المشاركة فى سيناريو الولايات المتحدة الهابط، لذلك فهى تُهيئ أنسب الظروف لداعش للقضاء بالنيابة عنها على فكرة إقامة الدولة الكردية على حدودها، ولذك فإنها تتحجج بحجج واهية خاصة تلك التى تدعـو إلى إقامة منطقة عازلة

مازالت تفاعلات الأحداث التى تمر بالمنطقة العربية تبرز مدى تعارض وتشابك أهداف القوى العالمية والإقليمية الفاعلة، فمصر تسعى إلى استعادة توازنها الذى فـقـدته إبان حكم الجماعة الإرهابية، و تسعى القوى غـير العربية «تركيا وإيران وإسرائيل» إلى حصـد مزيد من مكاسب تداعيات هذه التفاعلات لصالح مشروعاتها القومية، أما روسيا فتسعى الى استعادة نفوذ القـوة السوفييتية العـظمى، بينما تتمسك الولايات المتحدة بالاحتفاظ بمركز الهـيمنة على العالم الذى يتطلب عدم قيام قوة عالمية أو إقليمية تكون قادرة على التحكم فى إقليم حيوى مثل المنطقة العربية قلب العالم والذى يُحقق التفوق لمن يسيطر عليها ولإحكام السيطرة على المنطقة قامت الولايات المتحدة بإشعال الحرب العـراقية- الإيرانية، وأوحت للعـراق بأن يغـزو الكويت، ثم قامت هى بغزوه وتدميره وتقسيمه عـرقياً «الأكراد» ومذهبياً «السُنة والشيعة» وأغرقت المنطقة فى ثورات فوضوية، وقامت بتوطين التنظيمات الإرهابية فى قلبها لإسقاط دولها من الداخل، ودبرت أزمة أوكرانيا لإبعاد روسيا عن المنطقة، وأخيراً افتعـلت أزمة «داعش» لتبرر عـودتها مرة أخـرى إلى العـراق لتتخذه متكأ لتنفيذ مخططها لتقسيم سوريا، وفقاً لمنظورها فى إعادة هيكلة وتشكيل الشرق الأوسط الكبير، فادعـت أن مسئوليتها الأخلاقية تقتضى تدخلها المباشر بعـدما أصبحت الأزمة السورية قضية إنسانية! لكنها استشعـرت حرج موقفها بعـدما أدركت فشل استراتيجيتها التى تقتصر على الضربات الجوية لتصفية «داعش»، وبعـد أن تيقنت من تلكؤ تركيا بالرغم من كونها جزءًا أساسياً من حلف الناتو باعـتبارها ثانى أكبر قوة بعـدها فى الحلف، بالرغم أيضاً من أن خطر «داعش» بدأ يطرق بابها، فأردوغان يُريد استثمار الموقف بعـد أن توصل «بوساطة قطرية» إلى اتفاق مع «داعش» لإطلاق سراح الأتراك الذين كانوا محتجزين لدى «داعش» كرهائن فى مقابل الإفراج عن أكثر من150 من عناصره فى سجون تركيا، فما الذى يريد أن يستثمره أردوغان من هذا الموقف؟

للإجابة عن هذا السؤال يتعـين توضيح بعض الاعـتبارات التى تتحكم فى الإدراك التركى، حيث تدرك تركيا أولاً أن الولايات المتحدة لا ترغب فى تصفية «داعش»، فكيف تسعى إلى تصفية تنظيم مازال ينفذ أجندتها لتفتيت المنطقة أو على الأقل مازال يُحدث فيها الفوضى المنشودة، وإن كانت ترغب حقيقة فى تدمير داعـش، فإنها لا تمتلك القدرة على ذلك فى غياب حشد قوة برية متفوقة، فهى غـير مستعدة للتورط فى قتال مرير معه، وأنها تدرك ثانياً أن الولايات المتحدة وحلفائها لو كانوا جادين حقاً فى تصفية «داعش» لكان من الأَوْلى لهم تصفية جميع الجماعات الإرهابية فى المنطقة التى تعـتنق الأفكار المتطرفة، حتى يتسنى لهم تجفيف منابع الإرهاب الذى سيطال الولايات المتحدة والغرب، بل والعالم بأسره وما كان لهم أن يختزلوا الإرهاب فى تنظيم وحيد، وأنها تدرك ثالثاً أن «داعش» صنيعة أمريكية كان يمثل فصيلاً عـضوياً فيما يُسمى بالمعارضة السورية المعـتدلة، قامت الولايات المتحدة بتوطينه فى المنطقة وقامت تركيا بتدريبه وقطر بتمويله، ولذلك تمارس عليه الولايات المتحدة شيئاً من الانضباط بعـد أن شق عـصا الطاعة، وتدرك تركيا رابعاً ـ وهو الأهم ـ أن قيام دولة كردية مستقلة على حدودها وفقاً لمشروع التقسيم الأمريكى سيشكل خطراً داهماً على أمنها القومى، وهى التى كانت ترفض مجرد منح الحكم الذاتى للأكراد، فكيف تقاتل من أجل إقامة دولة كردية مستقلة ذات سيادة على حدودها، إذ يتمثل خطرالدولة الكردية على أمنها القومى من احتمال تأجج صراع عرقى مستقبلى عـندما تتحكم الدولة الكردية فى مشروعاتها المائية على هـضبة الأناضول خاصة خط أنابيب السلام «المزمع إنشاؤه» لتوصيل المياه إلى دول الخليج وإسرائيل، كما ستسيطر على مصادر النفط العراقى فى كردستان وبالتالى ستتحكم فى خط الأنابيب المار فى الأراضى التركية وتصدير البترول العـراقى من موانيها.

وترتيباً على ذلك فإن المراقب لتفاعلات السلوك السياسى التركى يمكنه إدراك مغـزى تلكؤ تركيا فى المشاركة فى سيناريو الولايات المتحدة الهابط، لذلك فهى تُهيئ أنسب الظروف لداعش للقضاء بالنيابة عنها على فكرة إقامة الدولة الكردية على حدودها، ولذك فإنها تتحجج بحجج واهية خاصة تلك التى تدعـو إلى إقامة منطقة عازلة Buffer Zone تعلوها منطقة حظر جوى، فهى تدرك يقيناً أن إقامة مثل هذه المنطقة تتطلب قراراً من مجلس الأمن، الذى لابـد أن يصطـدم بالفيتو الروسى والصينى، كما أنها تهدف من إقامة المنطقة العازلة إلى السيطرة على إقليم حلب الذى يضم ضريح «سليمان شاه»- مؤسس الإمبراطورية العـثمانية- وتضعه حالياً تحت سيادتها وفى حراسة جنودها، ثم تعمل بعـد ذلك على الاستيلاء عليه مثلما استولت على الإسكندرونة وأنطاكية من قبل .. وللحديث بقية فى الأسبوع المقبل بإذن الله.

أستاذ العلوم السياسية بجامعة بورسعـيــد