رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أشياء لا تشترى


المال نعمة لا يرفسها إلا الأحمق. مع ذلك ثمّة مال لابد من رفضه بوضوح. عام 1965منحت مجلة «حوار» التى ترأس تحريرها من لبنان توفيق الصايغ جائزة ليوسف إدريس بقيمة مالية كبيرة، لكنه امتنع عن قبولها حين علم بالعلاقة بين المجلة والمخابرات الأمريكية تحت ستار المنظمة العالمية للحرية والثقافة.

تلقيت منذ أيام على بريدى الإلكترونى رسالة من أحد الكتاب العاملين بجريدة «العربى الجديد» التى تصدر فى لندن. وفى رسالته أشاد الكاتب مشكوراً بقدرتى الأدبية وعرض علىّ! أن أكتب للجريدة مقالاً لا يتجاوز ألف كلمة ملتزماً بدفع مكافأة لا تقل عن ثلاثمائة دولار فى المقال. أربكتنى الرسالة وقررت أن أستعلم عن الجريدة، فعلمت أن رئيس تحريرها «وائل قنديل» وأنهاً وفقا لكل المصادر صناعة قطرية تمولها شركة «فضاءات ميديا ليميتد» التى أسسها إبراهيم منير ــ عضو التنظيم الدولى للإخوان ــ ثلاثمائة دولار فى المقال ليس مبلغاً صغيراً؟! وأنا لست من الأثرياء ولم أكن يوماً منهم. قمت بنشر نحو عشرين كتاباً لم أتقاض عن أى منها تقريباً مليماً. وعلى مدى أكثر من عشرين عاماً كتبت للصحافة المصرية بدأب وانتظام مجانا! وعلى امتداد تلك السنوات لم أتمتع بعضوية ولا لجنة واحدة من لجان الثقافة الحكومية التى تمنح المكافآت وترفّه عن أعضائها بالسفريات والجوائز. وظللت طوال تلك السنين أدلى بأحاديث للتليفزيون وللبرنامج الثقافى بالإذاعة دون مقابل مع إصرار المسئولين هنا وهناك على عدم دفع مليم واحد. وكنت ــ ومازلت ــ أخرج من عندهم كل مرة بجيوب خاوية وقلب عامر بأنها كانت فرصة أقول فيها شيئاً أتصوره. الآن، على حين فجأة، يصلنى عرض سخى بثلاثمائة دولار فى المقال؟!

المال لايجلب السعادة. هذا صحيح. لكن أليس من الأفضل – إن كنت حزيناً - أن تبكى داخل سيارة فى الزمالك بدلاً من البكاء فى أتوبيس شبرا وأنت مهروس فى الزحام تتابع ركض «الكومسارى» وراء الركاب بالقبقاب ليدفعوا ثمن التذكرة؟! المال نعمة لا يرفسها إلا الأحمق. مع ذلك ثمّة مال لابد من رفضه بوضوح. عام 1965منحت مجلة «حوار» التى ترأس تحريرها من لبنان توفيق الصايغ جائزة ليوسف إدريس بقيمة مالية كبيرة، لكنه امتنع عن قبولها حين علم بالعلاقة بين المجلة والمخابرات الأمريكية تحت ستار المنظمة العالمية للحرية والثقافة. وفى أغسطس 2009 رفض الروائى الإسبانى الكبير «خوان جويتيسولو» جائزة القذافى للأدب (مئتا ألف دولار)! وفسر ذلك فى رسالته للجنة التحكيم بقوله: «أنا واحد من قلة من الروائيين الأوروبيين المهتمين بالثقافة العربية.. لكنى بعد تردد قصير درست خلاله احتمالات قبول الجائزة أورفضها اتخذت الخيار الثانى لأسباب سياسية وأخلاقية». نعم، ليس أجمل من أن يتوفر لك المال لتنعم بكل ماتشتهى، لكن عليك وأنت تكسب المال أن تتأكد من أنك لن تخسر شيئاً لا يمكن شراؤه. المال فى اعتقادى اختبار من نوع خاص يحدد تكوين المرء ومستقبله خاصة إذا كان كاتباً. وحين أراد الروائى العملاق «فيودور دوستويفسكى» أن يصور إنساناً رائعاً يجمع بين عظمة «المسيح» الواعى برسالته وبين «أحلام دون كيخوت» الهوائية رسم شخصية «ميشكين» فى رواية «الأبله» عام 1869وجعل ميشكين يحرق مائة ألف روبل بالنار! المال مهم، وممتع، ويهب المرء حرية التنقل والعمل والراحة بلا حدود. المشكلة الوحيدة هى مصدر ذلك المال. هل هو مرتبط بشراء موقفك؟ هل هو استجلاب قلمك - كما تستجلب طوابير العبيد - للخدمة فى قصور الأمراء؟. فكرت واعتذرت عن عدم الكتابة وأنا أقول لنفسى لا هى الأولى ولا هى الأخيرة. موقفى بسيط مقارنة بمواقف الآخرين لكنه أنا وكل مالدى