رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

العلاقات الدولـيـة المصـريـة بين التقارب والتباعـد «3»


وبالرغم من أهمية المنطقة العربية فى بناء استراتيجيات القوى العـظمى والكبرى على مر التاريخ، فإن هذه القوى قـد حرصت على ألا تكون المنطقة العربية مرادفاً لمصطلح الشرق الأوسط منذ نشأته، فجعلتها إحدى مكوناته وحرصت على إضافة قـوى غـيـر عـربية إلى مكوناته، ولم تكتف هذه القوى بذلك، بل زرعت إسرائيل فى قلب المنطقة العربية لتكون فاصلاً زمنياً يحول دون تقدم دولها

أشرت فى المقالين السابقين إلى أن زيارتى المشير السيسى إلى روسيا لن يؤثرا على نمط العلاقات الدولية المصرية بُعـداً وقُرباً من بعـض القوى فقط، بل أيضا سيكون لهما نتائج سوف تؤثر تأثيراً مباشراً على التوازن الاستراتيجى فى النسق الإقليمى للشرق الأوسط وعلى التوازن الدولى فى النسق العالمى، حيث يلعـب القائد السياسى دوراً متعاظماً فى توجيه وإنجاح هذه العلاقات، إذ يسعى الرئيس السيسى إلى استعادة مكانة مصر الإقليمية التى فقدتها إبان عام الظلام الذى حكمت فيه الجماعة الإرهابية مصر، بينما يسعى الرئيس بوتين إلى استعادة نفوذ القـوة السوفييتية العـظمى، أما الرئيس أوباما فيسعى إلى الاحتفاظ بمركز الهـيمنة فى قلب الولايات المتحدة، وأوضحت كيف سيطرت الولايات المتحدة على العالم بتطبيق الاستراتيجية الأمريكية التى وضعها «ألفريـد ماهان» فى كتابه The Influence of Sea Power on History عام 1902، وتناولت كيف جرت الولايات المتحدة الاتحاد السوفييتى إلى سباق تسلح يفوق قدراته الاقتصادية فهزمته فى حرب باردة استحق أن يطلق عـليها الحرب العالمية الثالثة دون أن تطلق طلقة واحدة!! وعـملت على تفكيكه وتركته بقايا دول وأنقاض شعـوب، وانفردت بالنفوذ على الساحة الدولية، وانتهى المقال بطرح ثلاثة تساؤلات وهى: هل يُمكن أن تتنازل الولايات المتحدة عن مركـز الهـيمنة بعـد كل الجهود التى استمرت لأكثر من 110 سنوات فى تطبيق هذه الاستراتيجية؟ وهل ستتمكن روسيا من استعادة نفوذ القـوة السوفييتية العـظمى لتشارك الولايات المتحدة النفوذ على الساحة الدولية؟ وهل ستقبل الصين أن يكون دورها هامشياً فى المعادلة الدولية الجديدة؟

لا شك فى أن تفاعلات هذه التساولات سوف تتحكم إلى حـد بعـيـد فى العلاقات الدولية قرباً وبعداً، ذلك أن أحد الاشتراطات الرئيسية لاحتفاظ الولايات المتحدة بموقع الهيمنة هو عـدم قيام قوة عالمية «روسيا ـ الصين»، أو إقليمية «مصر» يُمكنها التحكم فى إقـليم حيوى مثل إقليم الشرق الأوسط ويُهدد مصالحها الحيوية، حيث تُعـتبر هذه المنطقة من أكثر الأنساق الإقليمية أهمية وأخطرها حساسية فى العالم لاعـتبارات استراتيجية عديدة لا تتسع المساحة لسردها، لكن ما يزيد من أهميتها وحساسيتها أنها تحتوى على مصالح متشابكة ومتعارضة لمعـظم ــ إن لم يكن لجميع القوى العـظمى والكبرى والتكتلات الاقتصاديـة العـملاقـة فى العالم ــ إذ تلعـب الجغـرافيا السياسية للمنطقة دورا متعاظماً فى تشكيل هذه الأهمية باعـتبارها قلب العالم الذى يمنح التفوق لمن يسيطر عليه، وبالتالى فإنها تُعـتبر مركز ثقل التوازن الاستراتيجى الإقليمى والدولى، حيث إنها منطقة التقاء ماء البحار والمحيطات بيابس العالم القديم، وتُعـتبر موطن الحضارات القديمة التى صاغت للبشرية تاريخها، ومهبط الأديان السماوية التى صاغت للإنسان سلوكه وقيمه.

وبالرغم من أهمية المنطقة العربية فى بناء استراتيجيات القوى العـظمى والكبرى على مر التاريخ، فإن هذه القوى قـد حرصت على ألا تكون المنطقة العربية مرادفاً لمصطلح الشرق الأوسط منذ نشأته، فجعلتها إحدى مكوناته وحرصت على إضافة قـوى غـيـر عـربية إلى مكوناته، ولم تكتف هذه القوى بذلك، بل زرعت إسرائيل فى قلب المنطقة العربية لتكون فاصلاً زمنياً يحول دون تقدم دولها، وفاصلاً أرضياً يمنع وحدتها، وهكذا أُعـتبر الشرق أدنى أو أوسط أو أقصى بالنسبة للجزر البريطانية والقوى الاستعـمارية القديمة، ثم أصبح قديما أو جديداً بظهور قوى عالمية جديدة، ويضيق ويتسع ليكون كبيراً أو غـير ذلك وفقا لأهداف واستراتيجيات القوى التى تملأ الفراغ الاستراتيجى الذى ينشأ من تقليص نفوذ الاستعـمار القديم وإقصائه، وهو ما جعـل مفهوم مصطلح الشرق الأوسط يبـدو استعمارياً فى نشأته، وجيوبوليتيكياً فى استخداماته فى جميع مراحل تطوره، وأظهر المنطقة العربية على أنها مسرح لنشاط القوى العالمية والإقليمية، فبالرغم من توافـر جميع الاشتراطات التى تجعـل منها كلاً مترابطاً بحكم تواصلها الجغـرافى الممتد، وتماثـل عـناصرها الجغـرافية والتاريخية والثقافية واللغـويـة والاجتماعـية، حتى تماثلت تفـاعلاتها، فلم تتمكن دولها حتى الآن من بناء نظام موحد يستحق أن يُطلق عـليه «النظـام العـربى» حتى أصبحت استراتيجياتها المتعـددة عـاجزة عـن مجابهة التهديدات والأخطار التى تحيق بها، خاصة مع كثافة وتسارع وتراكم تفاعلات التحولات التى طرأت على النظام الدولى الراهن، خاصة تلك التفاعلات الناجمة عن السعـى الدءوب للولايات الـمتحدة للاحـتفاظ بمركز الهيمنة ــ إن رهـباً أو رغـباً ــ واستمرار تطلع روسيـا إلى استعادة نفوذ القـوة السوفييتية العـظمى، وترقب الصين الحثيث لمشاركة الولايات المتحدة النفوذ على الساحة الدولية، وهو ما سأتناوله الأسبوع المقبل بإذن الله

خبير سياسى واستراتيجى