رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

نجيب محفوظ داخل الأدب وخارجه


لم أكن أعتزم الكتابة عن نجيب محفوظ فى ذكرى رحيله الثامنة بعد أن تشبَّعت وسائل الإعلام بسيرته، لكن أحدهم استشهد - فى برنامج تليفزيونى- بعبارة الناقد غالى شكرى: «محفوظ أشجع فنان وأجبن إنسان». وإذا نحيَّت جانباً ما فى العبارة من استسهال القسوة فى الحكم على أديب عظيم...

... سيبقى التساؤل عن ذلك التناقض الصارخ بين ما كان محفوظ يسطره كل ليلة بدأب المكافحين وما كان يلتزم به نهاراً خارج الأدب. فى أعماله الأدبية يدعو محفوظ إلى التقدم والاستنارة وحرية المرأة والعدالة الاجتماعية والتطور والعلم واستكشاف كل مجهول، أما فى حياته - خارج الرواية – فقد تفادى أى موقف يؤكد به دفاعه عن تلك القيم، بل ومضى إلى أبعد من ذلك بالإشادة بأهون إشارة تصدر عن الدولة فى عموده الأسبوعى بجريدة الأهرام، وعاش حياته كلها فى ظل فصام عميق بين كاتب ثائر وموظف رسمى! أذكر أننى ذهبت لزيارته ذات يوم فى مبنى ماسبيرو. وجلست معه فى حجرة واسعة بنافذة تطل على النيل. كان مستشاراً للإذاعة والتليفزيون ولم يكن لديه فعلياً عمل يقوم به فسألته: «أستاذ نجيب هل تستغل وقت الفراغ هنا فى القراءة؟». فلوَّح بيده نافياً بحرارة «كلا. كلا . هذا وقت الحكومة. ملك لها حتى لو كان فراغاً»! وإذا كانت الثلاثية الشهيرة تصور جزءاً من حياة نجيب محفوظ المبكرة كما أشار هو نفسه ذات مرة، فإن الفصام الذى عانى منه «سى السيد» الطاغية داخل بيته والراقص الطروب خارجه قد انتقل إلى نجيب محفوظ الثورى داخل روايته والمحافظ خارجها. فهل يعنى ذلك أن نجيب محفوظ كان حقاً «أشجع فنان وأجبن إنسان»؟. نعم هو كاتب وفنان شجاع وعظيم من دون شك. وأكثر من كل أبناء جيله تصدى محفوظ للجانب غير الديمقراطى من ثورة يوليو فى رواياته الست التى صدرت بعد الثلاثية: «السمان والخريف» و«اللص والكلاب» و«ثرثرة فوق النيل» وغيرها، بل وأكثر من كل أبناء جيله من الأدباء تصدى محفوظ للخرافات والشعوذة وكان الوحيد بين أبناء جيله الذى تعرض لمحاولة اغتيال عام 1994. يتبقى النصف الثانى من السؤال هل كان محفوظ «أجبن إنسان»؟ كما وصفه غالى شكرى وغيره بسبب مواقفه خارج الأدب المتصالحة والمتوافقة مع السلطة، بل والتى تدافع عنها فى أحيان كثيرة؟. لا أظن ذلك. وفى اعتقادى أن نجيب محفوظ بكل جديته والتزامه أدرك أن الأدب بحاجة إلى تفرغ، وأن الصدام مع المجتمع سيعطل الأديب ويجرجر طاقته إلى أزقة أخرى، ومن ثَمَّ تخيَّر محفوظ عن وعى ذلك الموقف الأقرب لطبيعته الشخصية، ليس خوفاً، لكن دفاعاً عن التفرغ للأدب، وليس جبناً ولكن شجاعة فى الالتزام بالإبداع الأدبى ومسئوليته. كان ذلك الفصام بين محفوظ فى الأدب ومحفوظ خارج الأدب وسيلة للتفرغ للأدب، خاصة أن الكاتب الكبير كان شاهداً على التنكيل بأستاذه سلامة موسى وبغيره بسبب مواقفهم السياسية والفكرية. أذكر أننا سألناه ذات مرة: «من نصدق أستاذ نجيب؟ هل نصدق محفوظ الروائى» أم «محفوظ الشخصية العامة والصحفى؟». فقال «أنا فى رواياتى. ابحثوا عنى وعن مواقفى هناك». وستبقى روايات ذلك الكاتب العظيم، ومن دونها لم تكن مصر لتبدو لنا بهذا الثراء والجمال. وستبقى نماذجه التى قدمها نفيسة «فى بداية ونهاية»، و«سى السيد» فى الثلاثية، و«زيطة» صانع العاهات فى زقاق المدق ما بقيت الثقافة المصرية.

كاتب وأديب