رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

من أنت أيها الإنسان؟


لقد وردت تعريفات عديدة للإنسان، وكلها تجمع حول تميز الإنسان عن سائر الخلائق وسفر البدايات أو التكوين، وهو أول الأسفار التى حواها «العهد القديم» أو الأسفار الموسوية الخمسة عندما بدأ «فى البدء خلق الله السموات والأرض، وفى ستة أيام خلق الله العالم وكل ما فيه، وفى اليوم السادس خلق الله الإنسان ذكراً وأنثى، خلقهم وباركهم وقال لهم أثمروا وأكثروا واملأوا الأرض وأخضعوها

، وقد عرف العالم منذ بدايته أن الإنسان متميز عن سائر الخلائق بأن أعطاه الله عقلاً ليفكر، وقلباً ليحب، وضميراً ليميز بين الخير والشر،وإرادة وعزيمة ليصنع ما هو صواب، ويرفض أن يعمل ما هو ضار بنفسه وبمن حوله. كما منحه لساناً ينطق بلغة أو بلهجة ولد فيها وتعلمها من غيره، فهو بما حباه الله به من ميزات لم ينلها سواه من المخلوقات يتمتع بكل ما حوله، فقد أعطى سلطاناً على الخليقة مع إعمال العقل ليميز بين ما هو نافع وما هو ضار.

ومع أن الترتيب الكونى والمجتمع الإنسانى وضع نظماً وأعرافاً وقواعد معاملات حتى لا يطغى إنسان على غيره من البشر فقد وضع بنفسه ما يعرف بالقانون الذى يحفظ له حقوقه وحقوق غيره، وحتى لا يتحول المجتمع الإنسانى إلى مجتمع الحيوانات المختلفة التى يتعدى فيها القوى على الضعيف، وإن أدركت تلك الكائنات كيفية حماية نفسها بأساليب ووسائل متعددة وإلا انقرضت الحيوانات الصغيرة والضعيفة، وكذلك طيور السماء.

كما انتقل الإنسان من مراحل التخلف والسجية الطبيعية إلى الارتقاء والتحضر فى شتى مناحى الحياة مستفيداً من قدراته وما حباه الخالق به من فكر وعقل وقابلية للتعلم بأكثر سرعة عما لدى سائر الكائنات، وإن كنا قد رأينا بعضاً من الطيور الناطقة، والحيوانات المقلدة لأفعال الإنسان ولكن وحتى يومنا لم يصل أى نوع من الكائنات غير الإنسانية إلى ما لدى الإنسان ويكفى هذا التميز أن يفرض على الإنسان قواعد احترام قدرات الآخرين، وطرق تفكيرهم وتعددية عقائدهم.

أما وقد خرج علينا فى حقب سابقة من يحاول إكراه الآخرين أن يغيروا من أنماط تفكيرهم وأساليب تعبيرهم وكذلك عقائدهم وأساليب عبادتهم، فهذا ما لا يمكن أن ينسب إلى الخالق الرازق الذى له وحده حق المحاسبة والعقاب.

أما فى شئون حياتنا، فقد وضع الناس قواعد تحكمهم، وأساليب محاسبتهم على ما يقصرون فيه أو إذا ما اعتدى إنسان على غيره أو على مال الآخرين.

أما حدود مسئولية الإنسان فقد عرفتها القواعد الأخلاقية والدينية والقانونية وفقاً لحجم المسئولية وجسامتها. فالإسلام يحدد المسئولية بأنها تكليف واختبار وابتلاء. أما تعريف المسئولية لغةً، فهى الأعمال التى يكون الإنسان مطالبا بها. أما المسئولية اصطلاحاً، فهى المقدرة على أن يلزم الإنسان نفسه أولاً، ثم يفى بالتزامه بكل وسيلة وجهد أخلاقى بحيث لا يضر بغيره ولا يسلب حقوقاً ليست من حقوقه.

والمسئوليات أنواع، فمنها الواجبات الدينية والروحية التى تعلمها الديانات، ويقبلها الإنسان طواعية ابتغاء رضاء الخالق.

والمسئولية الاجتماعية هى التزام الإنسان بقوانين وتقاليد وأعراف المجتمع، وبناءً على هذه المسئولية يهتم الفرد بغيره، فيشارك الآخرين فى أفراحهم وأحزانهم، والمسئولية الاجتماعية هى أخلاقية تقترب إلى القانون العرفى، يحاسب المرء نفسه كما يعاتبه قومه وأقرانه.

أما المسئولية القانونية فقد نصت عليها القوانين المنظمة لأحوال الناس، فالعامل فى عمله يخضع لقوانين العمل التى تنظم العلاقة بين العامل وصاحب العمل والواجبات التى تقع على كل منهما، فالعامل يؤدى عمله بانتظام والتزام بالجودة والكم، وعلى صاحب العمل أن يوفر له الأجر المناسب وظروف العمل الملائمة، وهناك قوانين تنظم ضمان الأداء والالتزام بين الجانبين.

وهناك قوانين عقابية تلتزم جهات القضاء بالمحاسبة وإقرار العقوبات الواجب تطبيقها فى حالة المخالفة.

أما الذين يقيمون من أنفسهم قضاة وهم ليسوا كذلك فالقوانين تعاقب مثل أولئك لكونهم ادعوا لأنفسهم سلطة ليست لهم، ولم يخولهم القانون أو الدستور بما يدعونه، وبذلك يقعون تحت طائلة المحاسبة بانتحال صفة ليست لهم كمن يتزيى بلباس الشرطة وهو ليس منهم، أو يجلس ليقضى وهو ليس بقاضٍ، كمن يدعى الطب ويباشر فحص المرضى وتشخيص المرض ووصف الدواء وهو ليس بطبيب، وجميع القوانين تعاقب مثل هؤلاء تحت وصف «انتحال صفة ليست لهم».

أما السؤال «متى يفعل الانسان عملاً ليس ملتزماً به؟»، والإجابة إن كل أعمال الرحمة والشفقة والمساعدة والإنقاذ أو دفع الضرر عن الآخرين فكلها مشروعة فى حدود القدرة والإمكانية، وكذلك التقاليد المرعية. فإنقاذ مصاب صدمته سيارة ممكن بطلب سيارة الإسعاف لتنقل المصاب، وفيها مختص فى نقل المصاب، إذ قد يحاول غير المختص أن يفعل خيراً، فينقله بأسلوب غير علمى فيؤدى بالمصاب إلى ضرر أكبر، فسيارة الاسعاف مجهزة طبياً وكذلك العاملون بها مدربون على نقل المصابين حتى إنهم أحياناً ما يسعفون مصاباً أو مريضاً فيتعافى ويمضى إلى بيته أو عمله كما فى حالات الإغماء أو الإصابات الخفيفة.

أما من يدعون أنهم مكلفون من المولى بالحساب والعقاب دون سند من القانون الوضعى الذى ينظم أوضاع ومسئوليات البشر فهو ادعاء لا يجب علينا أن ندعيه، وإلا لاختلط المجتمع بالغابة، وتسقط الحواجز، بل وتسقط القوانين، وينفض القضاة، وتغلق المحاكم، لنعيش فى «المدينة غير الفاضلة».لهذا نادى السيد المسيح فى موعظته الشهيرة على الجبل:

« لاَ تَدِينُوا لِكَيْ لاَ تُدَانُوا، لأَنَّكُمْ بِالدَّيْنُونَةِ الَّتِى بِهَا تَدِينُونَ تُدَانُونَ، وَبِالْكَيْلِ الَّذِى بِهِ تَكِيلُونَ يُكَالُ لَكُمْ. وَلِمَاذَا تَنْظُرُ الْقَذَى الَّذِى فِى عَيْنِ أَخِيكَ، وَأَمَّا الْخَشَبَةُ الَّتِى فِى عَيْنِكَ فَلاَ تَفْطَنُ لَهَا؟ أَمْ كَيْفَ تَقُولُ لأَخِيكَ: دَعْنى أُخْرِجِ الْقَذَى مِنْ عَيْنِكَ، وَهَا الْخَشَبَةُ فِى عَيْنِكَ؟ يَامُرَائِي، أَخْرِجْ أَوَّلاً الْخَشَبَةَ مِنْ عَيْنِكَ، وَحِينَئِذٍ تُبْصِرُ جَيِّدًا أَنْ تُخْرِجَ الْقَذَى مِنْ عَيْنِ أَخِيكَ!».

■ رئيس الطائفة الإنجيلية بمصر