رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

هذا الوطن


ذات يوم كتب الروائى العراقى غائب طعمة فرمان «أوصيتك ياقلمى ألا تخون ضميرى». أقلام كثيرة لم تخن الضمائر، وظلت تواجه الظلم فى أدق اللحظات الحرجة فى عمر الوطن الذى قال عنه صلاح جاهين إنه «أحب وأجمل الأشياء». الوطن الذى يزج بنا إلى السجون فنمنحه حريته، ويمزقنا فنجمع أوصاله، ويبددنا فنصونه، ويحرمنا خبزنا فنطعمه. ما سر هذا الوطن؟ شىء ما أكبر وأعظم من الجغرافيا والتاريخ والألفة واللغة والشوارع التى اعتدنا منعطفاتها. معجزة الإنسان ليست فى ذراعيه ولا كتفيه ولا ساقيه، بل فى روحه، ومعجزة الوطن ليست فى كل المعطيات المرصودة التى ترسم هيئته الخارجية بل فى روحه التى لا ندرى ماهى بالدقة، أو أنها «النسيم فى الليالى وبياعين الفل». لهذا يوصى الكثيرون أقلامهم ألا تخون ضمائرهم. وفى تاريخ الصحافة المصرية أقلام كثيرة وقفت مع شعبها فى أشد اللحظات دقة منذ أن تحولت الصحافة عام 1877 إلى صحافة رأى وموقف بسبب الحرب التركية – الروسية التى دخلتها مصر حينذاك مجبرة إلى جوار تركيا، فأشعلت الحرب الأزمة الداخلية. وللمرة الأولى فى تاريخ مصر تصف إحدى الجرائد الخديو إسماعيل بأقذع الألفاظ فتقول إنه: «أنفق مائة ألف جنيه من دم الفلاح وأنه بمثل هذه التصرفات السيئة يفضى بالبلاد إلى الهاوية» فتأمر الحكومة بإغلاق الجريدة . وتكتب جريدة أخرى هى «مرآة الشرق» لمحررها إبراهيم اللقانى عن الفساد الذى تفشى فتقول إن السبب هو الحكام الذين: «طغوا وبغوا، ونهبوا وسلبوا، وأفراد الرعية على مرأى منهم حفاة عراة يتضورون جوعا». وذات يوم مرض عبدالله النديم فكتب معتذرا عن عدم الإشراف على عدد من مجلته، ولكنه أرفق اعتذاره بقوله «إلا المقال الذى يخص الخديو لأن فى انتقاده شفاء لنفسى»! وينشر أديب اسحق مقالاته النارية فى جريدة مصر فتغلقها الحكومة وتأمر بنفيه إلى باريس فيصدر من هناك صحيفة «مصر القاهرة» ويكتب فيها: «سأكشف حقائق الأمور.. وأوضح معايب اللصوص الذين نسميهم اصطلاحا أولى الأمر»! ومع مقدمات ثورة 1919 كان قد تبلور على نحو نهائى إدراك ووعى بأن للصحافة رسالة مهمة إن أرادت أن تكون صحافة ضمير، وهو ما قامت به جرائد كثيرة لاحقا مثل صحيفة اللواء التى أسسها الزعيم مصطفى كامل ففتحت نيرانها على الاحتلال وأيقظت الشعور الوطنى. وظل أثر تلك الروح ساريا فى الضباب مثل نور لا ينقطع، الروح التى أخلصت لقضايا بلادها وهمومها وخبزها وآمالها. وكلما ألمت بالوطن نكبة أعود إلى ذلك النور، وإلى كتابه، أستمد منهم الأمل. وأتذكر ماكتبه اسحق أديب مندهشا: «واعجباه! إنا أمة عظيمة ولا قوة لنا، وأرضنا خصبة ولا نجد القوت، نشتغل ولا نجنى ثمرة الاجتهاد، ونؤدى الضرائب الباهظة فلا تُعد كافية .. ونحن فى سلم خارجى وحرب داخلية، فمن هو ذلك العدو الخفى الذى يسلب أموالنا ويفسد أحوالنا؟».للحديث بقية
 كاتب وأديب