رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فقراء مبدعون


اتجهت بعد الإفطار إلى الفجالة أزور بعض أقاربنا لنأكل معاً الكنافة ونشرب تمر هندى، فى طريقى إليهم توقفت أمام عربة فول مدمس حين رأيت على جانبها بحروف كبيرة «ما خطرش على بالك يوم تفطر عندى؟» على وزن شطرة أغنية أم كلثوم الشهيرة «ما خطرش على بالك يوم تسأل عنى؟». تذكرت أنى منذ شهرين لمحت عربة كبدة فى باب اللوق خط صاحبها عليها بلون أخضر فاتح «كبداكى» على وز «كنتاكى» فكرت فى المبدع المجهول الذى تخطر له تلك العبارات، لاشك أنه ابن بلد فقير مبدع تسكنه روح الفن الذى يتجلى بأشكال مختلفة فى شهر رمضان الكريم.. مازال يظهر فى شوارعنا أحياناً الرجل نصف العارى الذى ينفخ النار من فمه ويؤججها فى الهواء وبجواره صبى يدق له على طبلة مارش البطولة، لكن بعد أن يصيح وهو يدور بكفه الممدودة «عاوزين نستفتح بالصلاة على النبى»، لا أستطيع كلما رأيت مثل ذلك الفنان الشعبى أن أمر بجواره مرور الكرام، لابد أن أتوقف وأن أعطيه مبلغاً معقولا، لشعورى العميق بأنه زميل لى فى الإبداع لكن حظه فى التعلم والارتقاء بموهبته كان أقل من حظى، لا أكثر ولا أقل. كل أولئك المجهولين هم الذين يعيدون صياغة السير الشعبية والأغانى وينقحونها ويضيفون إليها حتى تصلنا بشكلها الذى نعرفه ونردده بإعجاب ومزاج. المشكلة أننا اعتدنا دون وعى أن نحسب أن الفن هو الرواية والقصة والشعر والمسرح والنحت والسينما، وأن الفنانين نخبة وصفوة قليلة العدد، فنحن لا نفكر فى الفن والإبداع بصفته حالة تتخلل حياتنا كلها، بدءاً من أغنيات الأمهات للأطفال، مروراً بالنكت، وتقليد الشخصيات، وزينة المرأة، وديكور وتنظيم البيوت من الداخل، وألوان الملابس وتصميمها، وحتى مواكب الجنازات، بل والعبارات الجميلة التى يتفتق عنها الخيال مبدعاً تحايا الصباح والغزل ساعة العشق، كل ذلك نشاط فنى، فالفن شرط وضرورة لاستمرار الحياة وللتواصل والتعارف الروحى البشرى، لذلك يشيع فى مختلف ظواهر الحياة كالهواء. أما الفنون الرسمية المعترف بها فما هى إلا القسط الأصغر من الفن الكبير الذى تبدعه الجموع كل لحظة. وقد صادفنى منذ شهور بائع أكواب زجاجية صعيدى، باعنى بالفن أكواباً لم أكن بحاجة إليها حين ثبت عيناه فى عينى وقال لى بنبرة أخوية صادقة نفذت إلى قلبى كالسهم «اشتريهم مش عشانك.. إنت مش محتاج حاجة خلاص، لكن عشان تفرح الأولاد، يعنى إيه عشر كبايات؟! ولاحاجة، لكن الصغيرين بيفرحوا. وأنت عاوز تفرحهم. صح؟ وبعدين دى كبايات جامدة ما تنكسرش». تأملته طويلا وهو يحدثنى. وشعرت أننى أمام مبدع، مقنع، لبق، فنان، استطاع أن يوحى إلى أننى لابد أن أكون إنساناً مبهجاً ولابد من أن أدخل الفرحة على قلوب الصغار فى بيتى، هكذا باعنى الصعيدى بفن الكلام الأكواب، اشتريتها وطقت وتحطمت فى البيت من أول لمسة ماء ساخن! مع ذلك لا يفارقنى الشعو العميق بأن كل أولئك المبدعين المجهولين هم رفاقى وأخوتى وزملائى فى الإبداع،

كاتب وأديب