رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مصر والسعودية.. أخوة بنكهة التاريخ


عشت فى المملكة العربية السعودية، أعواماً طويلة، مُدرساً فى إحدى جامعاتها العريقة.. خبرت خلالها نفسية هذا الشعب العروبى الأصيل، الذى كرمه الله بأن جعل أرضه مهبط الوحى لآخر رسالات السماء، ووطئتها قدما خير خلق الله، سيدنا محمد، صلى الله عليه وسلم، ومن قبله النبيون، صلوات الله عليهم جميعاً.. وعلى قدر ما تبدو عليه هذا البلاد من نعمة، إلا ما تزال على عهد تاريخها الأخوى بأشقائها، موصولة بأقطار عالمها العربى، وبخاصة مصر، وهذا يتبدى دائماً فى وقائع وأحداث كثيرة،

.. ذلك أن عهد العلاقات أبدى سرمدى، أقرب لحظاته، وصول سيدنا عمرو بن العاص إلى مصر، مبعوثاً من الخليفة العادل، الفاروق عمر بن الخطاب، وأحدثها، تلك الزيارة الكريمة لخادم الحرمين الشريفين إلى القاهرة، متلبساً بالروح التى انتقلت إليه من والده، المغفور له بإذن الله، الملك عبد العزيز آل سعود، الروح التى حافظ عليها أولاده من بعد وصيته لهم بأرض الكنانة، وهى الروح التى سرت من الرأس الملكى إلى الجسد السعودى بعامة.

لذلك لم أندهش من المقال الذى خطه الكاتب السعودى المبدع، الأستاذ جميل الفارسى فى جريدة «المدينة» السعودية، لأن ذلك هو الطبع الذى جُبل عليه أبناء المملكة، القدامى منهم والمحدثون، ومازال البعض من هؤلاء القدامى يتعهد الجيل الجديد بالذكرى الطيبة لتاريخ العلاقات المصرية السعودية.. ولأننى ممن يعشقون تراب هذه الأرض المصرية الطيبة، وأتلبس بالحب للمملكة العربية السعودية، فقد أردت أن نقرأ معاً ما خطه كاتبنا الرائع عن مصر.. يقول الأستاذ جميل فارسى.

«يُخطئ من يقيّم الأفراد قياساً على تصرفهم فى لحظة من الزمن أو فعل واحد من الأفعال.. ويسرى ذلك على الأمم، فيخطئ من يقيّم الدول على فترة من الزمان, وهذا للأسف سوء حظ مصر مع مجموعة من الشباب العربى الذين لم يعيشوا فترة ريادة مصر.. تلك الفترة كانت فيها مصر مثل الرجل الكبير تنفق بسخاء وبلا امتنان وتقدم التضحيات المتوالية دون انتظار للشكر.

هل تعلم يا بني، أن جامعة القاهرة وحدها علمت حوالى المليون طالب عربى، ومعظمهم بدون أى رسوم دراسية؟.. بل وكانت تصرف لهم مكافآت التفوق مثلهم مثل الطلاب المصريين؟.. هل تعلم أن مصر كانت تبعث مدرسيها لتدريس اللغة العربية للدول العربية المُستعمرة حتى لا تضمحل لغة القرآن لديهم, وعلى حسابها؟.. وهل تعلم أن أول طريق مُسفلت إلى مكة المكرمة كان هدية من مصر؟

حركات التحرر العربى كانت مصر هى صوتها وهى مستودعها وخزنتها.. وكما قادت حركات التحرير فإنها قدمت حركات التنوير.. كم قدمت مصر للعالم العربى فى كل مجال، فى الأدب والشعر والقصة، وفى الصحافة والطباعة، وفى الإعلام والمسرح، وفى كل فن من الفنون، ناهيك عن الدراسات الحقوقية ونتاج فقهاء القانون الدستورى. وكما تألقت فى الريادة القومية، تألقت فى الريادة الإسلامية.. فالدراسات الإسلامية ودراسات القرآن وعلم القراءات كان لمصر شرف الريادة.. وكان للأزهر دور عظيم فى حماية الإسلام فى حزام الصحراء الأفريقى.. وكان لها فضل تقديم الحركات التربوية الإصلاحية.. أما على مستوى الحركة القومية العربية، فقد كانت مصر أداتها ووقودها.. وإن انكسر المشروع القومى بعد نكسة 1967، فمن الظلم أن تحمل مصر وحدها وزر ذلك, بل شفع لها أنها كانت تحمل الإرادة الصلبة للخروج من ذل الهزيمة. إن صغر سنك يا بنى قد حماك من أن تذوق طعم المرارة الذى حملته لنا هزيمة 67، ولكن دعنى أؤكد لك أنها كانت من أقسى ما يمكن أن تتصور، ولكن هل تعلم عن الإرادة الحديدية التى كانت عند مصر يومها؟.. أعادت بناء جيشها، فحولته من رماد إلى مارد.. وفى ست سنوات وبضعة أشهر فقط، نقلت ذلك الجيش المنكسر إلى أسود تصيح الله أكبر، وتقتحم أكبر دفعات عرفها التاريخ.. مليون جندى لم يثن عزيمتهم تفوق سلاح العدو ومدده ومن كانوا خلفه.. بالله عليك كم دولة فى العالم مرت عليها ست سنوات لم تزدها إلا اتكالاً؟، وست أخرى لم تزدها إلا خبالا.. ثم انظر.. بعد انتهاء الحرب فتحت نفقاً تحت قناة السويس التى شهدت كل تلك المعارك الطاحنة أطلقت على النفق اسم الشهيد أحمد حمدى.. اسم بسيط ولكنه كبُر باستشهاد صاحبه فى أوائل المعركة.

هل تعلم أنه ليس منذ القرن الماضى فحسب، بل منذ القرن ما قبل الماضى، كان لمصر دستور مكتوب.. شعبها شديد التحمل والصبر أمام المكاره والشدائد، لكنه كم انتفض ضد الاستعمار والاستغلال والأذى العام. مصر تمرض ولكنها لا تموت.. إن اعتلّت اعتّل العالم العربى، وإن صحت صحوا، ولا أدل على ذلك من مأساة العراق والكويت, فقد تكررت مرتين فى العصر الحديث، فى إحداها وئدت المأساة فى مهدها بتهديد حازم من مصر، لمن كان يفكر فى الاعتداء على الكويت, ذلك عندما كانت مصر فى أوج صحتها.. أما فى المرة الأخرى، فهل تعلم كم تكلف العالم العربى برعونة صدام حسين فى استيلائه على الكويت؟.. هل تعلم أن مقادير العالم العربى رُهنت لعقود بسبب رعونته وعدم قدرة العالم العربى على أن يحل المشكلة بنفسه. إن لمصر قدرة غريبة على بعث روح الحياة والإرادة فى نفوس من يقدم إليها.. انظر إلى البطل صلاح الدين بمصر، حقق نصره العظيم.. أنظر إلى شجرة الدر, مملوكة أرمينية تشبعت بروح الإسلام، فأبت إلا أن تكون راية الإسلام مرفوعة فقادت الجيوش لصد الحملة الصليبية. لله درك يا مصر الإسلام.. لله درك يا مصر العروبة.. إن ما تشاهدونه من حال العالم العربى اليوم هو ما لم نتمنه لكم.. وإن كان هو قدرنا، فإنه أقل من مقدارنا وأقل من مقدراتنا.. أيها الشباب.. أعيدوا تقييم مصر، ثم أعيدوا بث الإرادة فى أنفسكم، فالحياة أعظم من أن تنقضى بلا إرادة.. أعيدوا لمصر قوتها تنقذوا مستقبلكم. لا فض فوك، وكثر محبوك، يا أستاذ جميل، وأمد الله فى عمرك وعمر من أحب مصر.

■ كاتب صحفى