رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فى فيلم «موسى».. نتفليكس تخدع المشاهد

العلاقة بين التاريخ والفن علاقة خطرة، الأعمال الفنية المبنية على التاريخ ذات جاذبية لا تقاوم وتأثير لا ينكر، فى ضوء هذه الفكرة انتظرت إذاعة الفيلم الوثائقى «موسى» من إنتاج شبكة «نتفليكس» الشهيرة.. الفيلم، كما هو واضح من الاسم، يروى قصة خروج اليهود من مصر بقيادة نبى الله موسى عليه السلام.. المشكلة أن فكرة الفيلم نفسها تنطوى على خداع، فهو فيلم دينى يرتدى ثياب فيلم وثائقى، وهذه عملية خداع كبرى.. بكل تأكيد أنا وأنت نؤمن بالله وملائكته ورسله وكل ما ورد فى الكتب السماوية، وهناك أفلام ومسلسلات تروى القصص الدينية وقصص القديسين والأنبياء، لكنها تصنف كأفلام دينية، يقول الراوى فيها إن التوراة أو الإنجيل أو القرآن روى لنا كذا وكذا.. ونحن فى هذه الحالة نصدق ما جاء فيها دون تفكير لأنها جزء من الثقافة الدينية.. لكن فيلم «موسى» فيلم مخادع لأنه يقدم نفسه كفيلم وثائقى يقدم حقائق تاريخية ومع ذلك لا يستضيف عالم تاريخ واحدًا اللهم مدرسة آثار مصرية اشتهرت بحب الظهور فى وسائل الإعلام وإثارة الجدل.. فيما عدا ذلك فالضيوف الرئيسيون من رجال الدين اليهودى والمسيحى ولهم كل احترام بكل تأكيد. حتى أكون واضحًا هناك فرق بين الإيمان بالدين وهذا محله القلب.. نحن نؤمن بكل ما جاء فى الكتب السماوية عن ظهر قلب دون نقاش أو حتى اقتناع.. هذا هو الإيمان.. أما التاريخ فهو علم له قواعد وأسس ويستند إلى أدلة، والفيلم الذى قدمته «نتفليكس» لا يستند إلى صحيح الدين ولا إلى علم التاريخ.. فصناع الفيلم يقررون بينهم وبين أنفسهم أن فرعون الخروج كان هو رمسيس الثانى مؤسس الأسرة التاسعة عشرة، أما دليلهم على هذا فهو أن الإمبراطورية المصرية فى عهده بلغت أوج مجدها ووصلت حدودها لبيروت! هل هذا دليل تاريخى؟ بكل تأكيد لا ولكنه أقرب للكلام الفارغ.. الأهم من هذا أن الرواية الدينية- التى أصدقها بقلبى- تخبرنا بأن فرعون وجنوده غرقوا فى البحر، بينما مومياء رمسيس الثانى موجودة ومحنطة منذ آلاف السنين ولا يوجد ما يدل على أن صاحبها مات غرقًا، بل مات بطريقة عادية جدًا، والأهم أن التاريخ لم يتوصل بعد لمن هو فرعون الخروج، ولم يجد أى دليل على غرق أحد حكام مصر فى العصر الفرعونى فى البحر، وإن كان من الوارد أن يحدث ذلك فى المستقبل، هناك انحياز كبير من شبكة «نتفليكس» ضد الحضارة المصرية القديمة لأسباب غير مفهومة، وبدون مبرر يتم وصف الفرعون بأنه «طاغية» «ظالم» «متكبر» وكأن الحكام فى العصور القديمة والوسطى كلهم لم يكونوا ينفردون بالسلطة حتى قيام الثورة الفرنسية فى القرن الثامن عشر! ولسبب ما تنتقى نتفليكس ممثلًا ذا ملامح حادة ليلعب دور الشرير فى الفيلم الذى أنتجته وتركت المشاهد يعتقد أنه تحقيق تاريخى، بينما اكتفت بعبارة فى أول الفيلم تقول فيها «هذا المسلسل عبارة عن رؤية استكشافية لقصة موسى والخروج بناء على دمج آراء علماء دين ومؤرخين من مختلف الثقافات والديانات تهدف مساهماتهم إلى إثراء السرد لكن لا يجب اعتبارها رواية متفقًا عليها»..! والحقيقة أن نتفليكس تكذب، حيث قدمت فيلمًا دينيًا فى ثوب فيلم استقصائى وثائقى، ولم تستضف علماء دين مسلمين مثلًا، كما فعلت باستضافة حاخام يهودى أو أكثر، ولم تستضف عالم آثار مشهورًا مثل زاهى حواس أو غيره من علماء المصريات المشهورين.. والأهم أن صدرها لم يتسع لتستمع للآراء المخالفة لرواية التوراة حول قصة الخروج رغم أن صدرها يتسع دائمًا للتعبير عن هموم المثليين والمنحرفين فى اتجاهات مختلفة بدعوى عدم سيادة رأى واحد.. مرة أخرى أؤكد أن ما تقوله الكتب السماوية مقدس عندنا ونؤمن به كله، ولكن تقديم الرواية الدينية من وجهة نظر سياسية وعدم الإشارة لكونها رواية دينية هو خداع وخلط للحقائق تمارسه نتفليكس لغرض فى نفس يعقوب، ولعل واقعة فيلم «موسى» وقبلها فيلم «كليوباترا» تلفت نظرنا لأهمية ما تقوم به الشركة المتحدة من إنتاج أعمال تاريخية مختلفة تروى تاريخنا من وجهة نظرنا بعيدًا عن تلاعب أعدائنا بتاريخنا.