رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

نتنياهو أغرق بايدن فى مستنقع غزة! (2)

مع أن الدعم الكامل الذي تُبديه الولايات المتحدة لإسرائيل، في الحرب الهمجيّة التي تشنّها منذ نحو شهر على قطاع غزّة ـ لا يُمكن تبريره من منظور أخلاقي أو حتى من منظور سياسي واقعي للعلاقات الأمريكية ـ الإسرائيلية، فإنه لا يتناقض مع إحدى الحقائق التاريخية للصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، وهي أن الدعم الحالي الذي تُقدمه إدارة الرئيس جو بايدن لإسرائيل، مطبوعٌ في الحَمض النوويّ السياسي لبايدن، على غرار أسلافه الأمريكيين السابقين.
مع انتصاف شهر نوفمبر الماضي، قرر البيت الأبيض دعم إسرائيل في مسألة اعتداءاتها على المستشفيات في قطاع غزة، خصوصًا ما يتعلق بمستشفى الشفاء.. جاء ذلك، عندما أعلن جون كيربي للصحفيين على متن طائرة الرئاسة، "لدينا معلومات تؤكد أن حماس تستخدم هذا المستشفى بالذات في القيادة والسيطرة"، مستشهدًا بمعلومات استخباراتية رُفِعَت عنها السرية، دون أن يعترف بأن "هذه جريمة حرب".. وأضاف كيربي أن البيت الأبيض "لا يريد أن يرى معركة بالأسلحة النارية في المستشفى، حيث يحاول الأبرياء والعاجزون والمرضى ببساطة الحصول على الرعاية الطبية التي يستحقونها".. وبعد ساعات، بدأ الجيش الإسرائيلي مداهمته لحي الشفاء، مما أثار إدانة من منظمة الصحة العالمية وجماعات حقوق الإنسان. وانهارت عمليات المستشفى، مما أدى إلى وفاة أربعين مريضًا على الأقل، بينهم أربعة أطفال خُدج، وفقا للأمم المتحدة.
وقال فان هولين، الذي تلقى إحاطة سرية حول المخابرات الأمريكية بشأن الشفاء، إن هناك "اختلافات مهمة ودقيقة"، بين ما يقوله مسئولو بايدن علنًا وما أظهرته المعلومات الاستخباراتية بالفعل.. وقال السيناتور: "لقد وجدت أن هناك بعض الانفصال بين التصريحات العامة للإدارة والنتائج السرية"، في الوقت الذي رفض فيه مسؤول كبير في الإدارة الأمريكية بشدة وصف فان هولين، قائلًا إن المعلومات التي تم تبادلها مع الجمهور كانت تقييما يثق فيه مجتمع الاستخبارات.. وداهمت إسرائيل مجددًا مُخيم الشفاء، مستندة إلى معلومات استخباراتية إسرائيلية تفيد بأن المُجمع كان يُستخدم من قبل كبار نشطاء حماس.. والتقى فان هولين، إلى جانب أكثر من عشرة أعضاء ديمقراطيين آخرين في مجلس الشيوخ، مع جاك سوليفان، أواخر نوفمبر، للتعبير عن مخاوفهم، وحث الإدارة على بذل المزيد من الجهد لكبح جماح إسرائيل.
نهاية نوفمبر الماضي، اعتقد مسئولو البيت الأبيض، أنهم رأوا فرصة لتغيير مسار الحرب بشكل كبير.. ساعدت الولايات المتحدة في التوسط في وقف القتال لمدة أسبوع بين إسرائيل وحماس، والذي تضمن إطلاق سراح أكثر من مائة رهينة، وخلال تلك الاستراحة، حاول الأمريكيون إقناع إسرائيل بشن غارات دقيقة الاستهداف، من شأنها تقليل الخسائر في صفوف المدنيين.. ولكن عندما انتهت الهدنة في الأول من ديسمبر، والتي ألقى مسئولون أمريكيون وإسرائيليون باللوم فيها على حماس، لعدم إطلاق سراح الرهائن الموعودين، بدأت إسرائيل في مهاجمة مدينة خان يونس في جنوب غزة، حيث فرَّ العديد من الفلسطينيين، بعدما لم تلتزم تل أبيب بدقة الاستهداف التي طالبتها بها واشنطن.. كل ما فعلته، توزيع خريطة للمناطق التي خططت لاستهدافها، دون أن تلتزم بها!.
ومع بداية العام الجديد، بدأ صبر الإدارة الأمريكية على نتنياهو ينفد، حيث خلص المسئولون، بشكل متزايد، إلى أنه يعطي الأولوية لبقائه السياسي.. وشمل ذلك الوقوف بصوتٍ عالٍ في وجه بايدن، لاسترضاء أعضاء اليمين المتطرف في حكومته، ورفضهم القاطع جميعًا لإقامة دولة فلسطينية، بعد وقت قصير من دعوة بايدن إلى إقامة هذه الدولة، "كان نهج بيبي تجاه الخلافات في الماضي شيئًا على غرار، دعونا لا نقول إننا قد نفعل ذلك.. في هذه الحالة، توقف حتى عن التظاهر أو مارس التعتيم"، قال فرانك لوينشتاين، المسئول السابق في وزارة الخارجية، الذي ساعد في قيادة المفاوضات الإسرائيلية ـ الفلسطينية عام 2014، مضيفًا (لقد خرج للتو  ـ أي نتنياهو ـ من المفاوضات، وأعلن عكس ما طلبناه منهم تمامًا).
ثم، في 14 يناير، أصدر بايدن بيانًا أشعل شهورًا من الغضب تجاه تعامله مع غزة.. أعرب البيان عن التعاطف والحزن في اليوم المائة من أسر أكثر من مائة رهينة إسرائيلية بقوا في غزة.. لكنه التزم الصمت بشأن عدد القتلى الفلسطينيين، الذي تجاوز عشرين ألف شهيدًا، بحلول ذلك الوقت.. وانتقد أميركيون، عرب ومسلمون بارزون، فضلًا عن نشطاء تقدميين، البيان ووصفوه بأنه أحادي الجانب وأصم، واستشهد به العرب الأمريكيون والمسلمون مرارًا وتكرارًا، كدليل على قسوة البيت الأبيض تجاه الفلسطينيين.. وقال مسئول كبير في الإدارة الأمريكية، إن البيان جاء استجابة لطلب من عائلات الرهائن، الذين أرادوا ضمان عدم نسيانهم، ولم يكن المقصود منه أن يكون بيانًا عن الحرب بأكملها.. وبعد يومين، أشار كيربي إلى صور |مفجعة ومؤلمة" تخرج من غزة.. ولكن، في جميع أنحاء الحكومة الفيدرالية، كان احتضان الرئيس المستمر لإسرائيل، بعد أكثر من ثلاثة أشهر من الحرب، يسبب توترًا متزايدًا.
في الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، حيث شكك الموظفون في التزام المديرة، سامانثا باور، بالمبادئ الإنسانية التي بشرت بها كباحثة، انتشر احتجاج. في يناير، بعدما أرسل أكثر من مائة عامل في الوكالة رسالة إلى أتول جاواندي، وهو كاتب وجراح سابق مشهور في مجلة نيويوركر ويشغل منصبًا رفيعًا مسئولًا عن الصحة العالمية.. قالوا فيه، "نناشدكم"، بصفتكم "قائدًا للصحة العامة، كرس حياته المهنية بأكملها لإنقاذ الأرواح، لاتخاذ المزيد من الإجراءات المباشرة، لمنع المزيد من الأذى والمعاناة الظالمة بين السكان المدنيين في غزة".. ورد جاواندي بأنه لا يستطيع التحدث علنًا، لكنه أقر بأن الجهود المبذولة لحماية المدنيين "لم تكن كافية بأي حال من الأحوال"، وقال إنه سيستخدم "القنوات الداخلية للدفاع عن توجهات السياسة".. ونفت السفارة الإسرائيلية في واشنطن، منع وصول المساعدات إلى غزة، قائلة إن الحكومة "تبذل جهودًا كبيرة لزيادة المساعدات الإنسانية إلى غزة، من البر والجو والبحر"، وهي نقطة تعارضها الأمم المتحدة والعديد من جماعات الإغاثة، التي شجبت نقص الغذاء والماء والدواء في القطاع.
بدأت إدارة بايدن في اتخاذ خطوات متواضعة في نوفمبر، والتي تسارعت في يناير، للنأي بنفسها عن نتنياهو، على الرغم من أنها غالبًا ما تنطوي على تعامل إسرائيل مع الضفة الغربية، حيث هاجم المستوطنون اليهود الفلسطينيين العُزل، ووافقت الحكومة على آلاف المستوطنات الجديدة، بدلًا من غزة.. وفي الوقت نفسه، وافقت إدارة بايدن على أكثر من مائة عملية بيع أسلحة لإسرائيل منذ السابع من أكتوبر.. وبحلول أوائل فبراير، كان من الواضح أن دعم بايدن للهجوم الإسرائيلي على غزة، كان له عواقب سياسية.. رفضت مجموعة من المسئولين الأمريكيين العرب المنتخبين في ميشيجان مقابلة مدير حملة الرئيس، وكانت هناك جهود ناشئة جارية لتنظيم احتجاج خلال الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي في الولاية، في 27 فبراير.. أرسل بايدن حفنة من المساعدين ـ بمن فيهم باور ونائب مستشار الأمن القومي جون فينر ـ للقاء القادة العرب الأمريكيين والمسلمين في ميشيجان.. كانت الاجتماعات في ديربورن، ذات الأغلبية العربية الأمريكية، عاطفية، حيث أخبر قادة المجتمع المساعدين، أنهم شعروا بالخيانة والتجريد من الإنسانية بسبب رد الرئيس.. وهنا، يقول مسئولان كبيران في البيت الأبيض إنهما أدركا بعد الاجتماعات، أنهما بحاجة إلى التحدث بقوة أكبر عن معاناة الفلسطينيين.. وسرعان ما بدأ بايدن باستخدام أرقام الضحايا من وزارة الصحة في غزة، والتي كان قد رفضها في وقت سابق باعتبارها غير جديرة بالثقة، وتحدث عن المجاعة ووفيات المدنيين في القطاع، "يبدو أنهم حسبوا أن الحرب ستنتهي بسرعة، وأن أي معارضة من التقدميين والشباب والعرب الأمريكيين ستنفجر دون أي تأثير دائم"، قال مارتن إنديك، الذي مثل الولايات المتحدة في محادثات السلام الإسرائيلية ـ الفلسطينية في عهد الرئيس باراك أوباما، وهو الآن زميل متميز في مجلس العلاقات الخارجية.. ولكن مع اقتراب الانتخابات التمهيدية في ميشيجان، قال، "أدركوا أن لديهم مشكلة في ميشيجان، وإذا لم يتعاملوا معها، فقد يخسرون الولاية، وبالتالي الانتخابات الرئاسية".. وفي نفس اليوم الذي عقدت فيه اجتماعات ميشيجان، اتخذ البيت الأبيض خطوة أخرى.. كان فان هولين وغيره من الديمقراطيين يدفعون بها منذ فترة طويلة.. وأصدر بايدن مذكرة تدعو وزارة الخارجية إلى الحصول على تأكيدات مكتوبة من الدول التي تتلقى أسلحة أمريكية، بأنها ستلتزم بالقانون الدولي، بما في ذلك تسهيل تسليم المساعدات الإنسانية.
تسارعت وتيرة الأحداث المحيطة بالحرب بين إسرائيل وغزة في الأيام الأخيرة. وقتل أكثر من مائة شخص، عندما هرع سكان غزة اليائسون إلى قافلة مساعدات، أواخر فبراير، فأطلق الجنود الإسرائيليون وابل من نار مميتة عليهم.. ورأى البعض في البيت الأبيض، أنه الدليل الأكثر دراماتيكية حتى الآن على فشل إسرائيل في حماية المدنيين.
أصدرت أجهزة الاستخبارات الأمريكية، مؤخرًا، تقييمًا متشككًا لتراجع الدعم الشعبي لنتنياهو في إسرائيل.. وجاء في التقرير أن "انعدام الثقة في قدرة نتنياهو على الحكم قد تعمَّق واتسع عبر الجمهور عن مستوياته المرتفعة بالفعل قبل الحرب، ونتوقع احتجاجات كبيرة تطالب باستقالته وإجراء انتخابات جديدة"، مضيفًا أن "قدرته على البقاء كقائد" في "خطر".. وردت حكومة نتنياهو بغضب، كما فعلت عندما دعا زعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ، تشارلز شومر، وهو أعلى مسئول يهودي في الولايات المتحدة وحليف دائم لإسرائيل، إلى إجراء انتخابات جديدة في إسرائيل، في خطاب لاذع حول قيادة نتنياهو.. قال شومر إن الإسرائيليين يفهمون "أفضل من أي شخص آخر، أن إسرائيل لا يمكن أن تأمل في النجاح كدولة منبوذة يعارضها بقية العالم".
إن السياسة الأمريكية في هذه الحرب، لا تؤدي فقط إلى زيادة عدوانية الاعتداءات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين، بل تعمل أيضًا على إضعاف فرص إنهاء هذه الحرب في أسرع وقت، وخلق آفاق جدية لتحويلها إلى فرصة لإعادة تنشيط عملية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، والنظر إلى الأسباب الجوهرية العميقة التي أدت لهذا الانفجار، والتي تتمثل في السياسات الإسرائيلية العدوانية التي قوّضت فرص السلام.. إن المقترحات الأميركية ـ على غرار "الهدن الإنسانيّة"، وإيجاد ترتيب لغزة بعد حماس، علاوة على أنها مُصممة  على مساعدة إسرائيل في مواصلة حربها على غزة، بضغط إقليمي ودولي أقلّ ـ تُظهر كيف أن الولايات المتّحدة عاجزة عن بلورة رؤية فعَّالة، قادرة على التعامل مع الأسباب الجوهرية العميقة لهذا الانفجار.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين