رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

شغف

كيف أُنفِّذ وصية أمى؟

 1 - مهما تكلمنا عن مضار وخطورة الخوف فى حياتنا، ومهما شرحنا أن المخاوف أغلبها أوهام فى عقولنا وخيالنا الموروث منذ عهود سحيقة، فإن الطريقة المثلى هى الفعل الذى نقوم به لإبادة الخوف والمخاوف. ومن تجاربى وليس من قراءة الكتب، أن الوسيلة الأكثر فاعلية والأسرع والتى تدوم، هى أن «نواجه الخوف بالفعل المضاد». هذا يعنى أننى اذا حددت ما الذى أخاف منه، فإننى لا أتجنبه بأى شكل أو درجة، بل أدخل إلى عرينه المتوحش، وأعطيه فرصة أن يفترسنى. مواجهة مباشرة كاملة. وعندما تمر لحظات، وأفاجأ أننى على قيد الحياة ولم يفترسنى شىء، سأشفى إلى الأبد. وهذه طريقة متبعة فى الطب النفسى.


***
2 - لا أحضر الأفراح والمآتم وسرادقات العزاء. لست أؤمن بالمشاعر الجماعية فى الفرح والحزن. فهى أدق المشاعر الحميمية، ولذلك لا بد أن تبقى فى حيز الخصوصية، ويا ريت لو بقيت سرية. عندما أموت، لا أريد عزاء.. ليس فقط لأننى لا أؤمن بهذه الأشياء. ولكننى متأكدة أن الذين سيحضرون عزائى من النساء والرجال، سوف يستمتعون بشرب القهوة، وهم يتبادلون الحديث عن أسرهم وكيف سيقضون الإجازات القادمة فى المنتجعات والقرى السياحية، وعن أضمن البنوك لوضع مدخراتهم وأفضل المشروعات لاستثمار أموالهم. سوف يتبادلون أرقام الهواتف والعناوين، ويشكرون الظروف التى جعلتهم يتعرفون على بعضهم البعض، أى موتى. 
ليست القضية كما أعتقد أن نموت، ولكن أن نميت الأشياء بداخلنا، ونحن أحياء.. التنفس والحركة والأكل والشرب والتكاثر، ليست معايير الحياة، هى فقط تدل على أننا نشغل حيزًا من الفراغ، ليس إلا. وما أكثر الذين يشغلون حيزًا فى الفراغ. وما أقل الذين يحيون.

**

3 - إلى كل النساء والرجال على كوكب الأرض... تعاطوا فقط «الحرية» بجميع مكوناتها ومكملاتها، ولا تتعاطوا الأدوية، كبسولات وأقراص وحقن فى العضل والوريد وتحت الجلد، لا تأخذوا الفيتامينات والمعادن والمكملات الغذائية. حقنة حرية واحدة فى العقل، قبل الإفطار وقبل النوم، وتتكرر كلما شعرتم بالضعف أو قلة المناعة أو اليأس أو تهكم وشتيمة الآخرين. 
** 

4 - الاستعجال صفة إيجابية للماكينات والآلات، وصفة سلبية للبشر.
الناس كلها فى عجلة من أمرهم، فى كل مكان نجدهم مستعجلين، يجرون، ويهرولون، يدفعون بعضهم ..
البعض، كأنه آخر يوم فى الحياة على كوكب الأرض. حتى القهوة يشربونها سريعة الذوبان، وأقراص الدواء يريدونها سريعة المفعول، والحب يريدونه سريع الإيقاع، والنجاح يريدونه سريع الخطوات..
يأكلون ويشربون بسرعة، والكلام بسرعة، والضحكات بسرعة، وكسب الفلوس بسرعة.. 
والزواج بسرعة، وأخذ القرارات بسرعة، والخلفة بسرعة، والانفعالات سريعة، وقيادة السيارات بسرعة، والغناء سريع والرقص سريع. 
إنها لمتعة ما بعدها متعة، أن نفعل الأشياء بتمهل، بدقة. التأنى الآن أصبح عملة رديئة غير مستحبة، منبوذة. يقولون إنه عصر السُرعة، عصر «الإنسان الآلة»، الذى ينسجم مع التطور،
ويتناغم مع الحضارة الرأسمالية التى تحكم العالم. حضارة تجعل البشر يشعرون بأنهم فى سباق دائم. واخترعت شعارات وضعتها فى أدمغتهم، مثل «الوقت فلوس». 
إن السُرعة تقود إلى الأخطاء، والقرارات الهوجاء، وهى تمثل ضغطًا نفسيًا هائلًا على البشر. 
وهناك نكتة سمعتها زمان، أن رجلا قال لسائق سيارته: «أنا مستعجل سوق ببطء». 
وعلينا أن نتذكر دائمًا: «إن أحلى الثمار هى التى تمنحها الأشجار التى تكبر ببطء». 
** 

5 - كلما ازداد ما نملكه من أشياء، ازدادت عبوديتنا له، حريتنا حريتنا حريتنا، وبالتالى نقصت سعادتنا وراحتنا النفسية. لا أدرى لماذا الطمع والجشع؟. لماذا لا نكتفى بالقليل، طالما أنه يسد احتياجتنا؟؟. نجد امرأة أو رجلا عنده بيت بسيط مريح ونظيف، لكنه يريد أكثر من بيت وفى أكثر من مدينة وفى أكثر من بلد. ونجد دولاب النساء والرجال ممتلئا بالأثواب والأحذية والجواهر من كل شكل ولون وماركة. والتلاجات فى المطابخ فيها كل أنواع البقالة والنوع الواحد فيه عشرات الأنواع، ونجد كل أنواع اللحوم والطيور والأسماك. والمشروبات بجميع أنواعها. طبعا هذا للميسورين ماديًا، والذين يجدون متعتهم فى المزيد من الامتلاك، وينسون أن هناك فى العالم 830 مليونًا تحت خط الفقر، ويعيشون حالة المجاعة، نساء وأطفالا ورجالًا، ومن جميع الأعمار. 
الحرية هى قدرتنا على الحياة بأقل القليل.

**


6 - تواصلت منذ شهور مع عدد من المنتجين، بخصوص إنتاج فيلم عن إحدى روايات أمى «نوال السعداوى» أو عن إحدى روايات شريف حتاتة أبى، والجميع ردوا بهذا الرد على اختلافهم: «آسفين ونعتذر.. الجرأة فى روايات د. شريف ود. نوال عالية جدًا.. والمناخ الآن سقف حرياته منخفض جدًا جدًا جدًا، وأيضا الرقابة متشددة جدًا جدًا جدًا». وبعض كتاب السيناريو من النساء أو الرجال أيضًا، أكدوا هذا الكلام. 
هذا هو الحال اليوم فى «هوليوود الشرق». عندما أعيد تقييم الأفلام المصرية، أجد أنها تدور فى التيمات المكررة، المستهلكة، أو أنها فقيرة المستوى الفكرى، لا رؤية، لا تجديد حقيقى، ولا إبداع . أفلام أكشن، وأفلام عنف، تحكى حواديت ساذجة. 
وعندما نسأل أهل السينما، لا يقولون إلا هذه الجملة: «أصل مافيش ورق حلو». 
فى «هوليوود الشرق»، لابد أن أكون من أصحاب الملايين والمليارات، حتى أقوم بإنتاج رواية مختلفة شكلًا ومضمونًا، ترضينى على المستوى الفكرى والفنى، وتقدم الفن الذى يكسر الخطوط الحمراء، ويقول ما نسكت عنه، مع المتعة والبساطة.
كل يوم، تتصدع أدمغتنا برسالة الفن المقدسة، وكيف أن الفن هو قاطرة التقدم، والقوة الناعمة الضرورية التى تعلى من قيمة المجتمعات، وأن الفن هو مرآة لا تخدع، تعكس التناقضات، وتعرى القبح، وتفضح الكذب. 
والبعض من أهل السينما، يشيدون بالأفلام الأميركية والأوروبية وغيرها من بلاد العالم، ويتحسرون على ضعف سوق الفيلم المصرى. ويبررون هذا الضعف بقلة الإمكانيات والميزانيات. 
لكن حقيقة الأمر، ليست فقر الفلوس، وإنما فقر الفكر والخيال والجرأة.
عندما جاءنى الرد: «آسفين.. الروايات جريئة والرقابة متشددة وسقف الحرية منخفض»، تساءلت منْ سيغير هذا المناخ؟. وإلى متى، لا نقوم بمسئوليتنا نحو التنوير؟. ومنْ هم الذين يقاومون الجديد؟. 
أمى كتبت ما يقرب من 35 رواية، تُرجمت كلها إلى 40 لغة عالمية، ولم تتحول أى واحدة منها إلى فيلم سينمائى. وأبى شريف حتاتة، له 20 رواية، لم تأخذ طريقها إلى الشاشة. منذ ستينيات القرن الماضى، منذ عهد عبدالناصر، ثم السادات الذى سجن نوال مع رموز المعارضة فى اعتقالات سبتمبر 1981، ثم عهد مبارك، لم  يقدما تنازلات ليرضى النظام عنهما. وبعد ثورة 30 يونيو 2013، تغير رأس النظام السياسى فى مصر. ولكن الثورة الثقافية، والدينية، والفكرية، لم تحدث. 
بعد رحيل نوال، وشريف، صممت أننى لن أتوقف حتى يتم إنتاج بعض من رواياتهما فى السينما. 
وكان هناك حلم لأمى، والأدق أنه لم يكن حلمًا، وإنما وصيتها لى فى أيامها الأخيرة، على فراش الموت، وهو أن ترى إحدى رواياتها على الشاشة، بإخراج ابنها وأخى المخرج السينمائى عاطف حتاتة. 

21 مارس 2024، هو ذكرى رحيل أمى الثالثة. لا أدرى كم من العمر، سيفوت حتى تنفذ وصيتها الأخيرة، ويتحقق حلمها الأكبر؟؟. 
لقد تفاءلت خيرًا، بإنشاء اتحاد منتجى مصر للإنتاج السينمائى، السنة الماضية 2023، والذى وصفه عمرو الفقى الرئيس التنفيذى للشركة المتحدة للخدمات الإعلامية، بأنه خطوة هامة لدعم الفن السينمائى المصرى. 
**


7 - يكرهنا الناس أسوأ أنواع الكراهية والتى ليس لها علاج، لأننا فقط نقول الحقيقة، دون ترقيع ومواربة وتحايل ومراوغة. تريدين أن تحصلى على كراهية الناس من جميع الأطياف، فقط قولى الحقيقة دون أن تجعليها ترتدى حجابًا أو نقابًا. وأنت تريد أن يلعنك الناس على اختلافهم، ليل نهار إلى الأبد، فقط «قل للأعور أنت أعور فى عينه». لن يكرهنا الناس، لأننا ناجحون، أو أثرياء، أو ذو نفوذ. لا شىء يزعج، ويظهر فى الناس أسوأ ما فيهم تجاهنا، هو أن نحب الحقيقة، ونتشبث بها، وندافع عنها، أمام الجميع، ولا نعبأ بالعواقب. الحقيقة رغم بساطتها، وبديهيتها، «متوحشة»، وإعصار يطيح بكل الأشياء. الحقيقة ولو أنكرها الجميع، تظل حقيقة.

**

من بستان قصائدى 

أريد أن أشعر أن جنسية الوطن التى أحملها
أكثر من بيانات وتواريخ
ختم هنا وختم هناك
توقيعات غريبة كأنها
من كوكب المريخ
كلام مبهم لا أحتاجه
مجرد حبر على الورق
أريد أن أجد فى الوطن
مَن يزرع صحرائى
إذا غاب عنها المطر
يطعمنى يدفئنى يسقينى يداوينى
يصرخ محذرًا أن حريتى فى خطر
وطن يجيد فن السباحة 
عندما أوشك على الغرق