رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

شغف الشرف

إذا كانت مجتمعاتنا تتجسس على عفة الفتاة والمرأة، بكشوف العذرية، لتعلن مهللة، حتى  لمنْ لا يهمه الأمر، أنها "صاغ سليم"، وأن شرف ذكور العائلة لم يتمرمغ فى الطين، وأن  "غشاء البكارة" أخرس التشهير والإشاعات، فما هو مقياس التجسس على "عفة الرجل"؟ 

أعتقد أن العدالة، وحقوق المواطنة الكاملة، المنصوص عليها دستوريًا لا تتحقق، وهناك مقياس للعفة الأخلاقية، مطبق فقط على جنس واحد.  
   ثقافتنا لا تستخدم مصطلح "عفة الرجال"، أو الشاب "البكر". وإذا قيلت فهى تصف بتهكم رجلًا "خام" عديم الخبرة بالنساء. والعفيف- إذا وُجد - غير مرغوب فيه، 
ومشكوك فى رجولته. ثقافة موروثة متجذرة منذ قرون سحيقة، وترسخها الأفلام والأغانى والمسلسلات والإعلانات والنكات والأمثال الشعبية.
ثقافة تشحذ أسلحتها الفتاكة، لو قيلت كلمة تعتبرها إهانة وجرحًا لمشاعر الذكور، أو ستقلص مساحة الامتيازات الأخلاقية والرخص الجنسية الممنوحة لهم. لكنها لا تحرك ساكنًا، ولا شىء يجرح مشاعرها، إذا ذُبحت الفتيات علنًا فى وضح النهار، لأنهن بلا غشاء بكارة، ولا تسأل أبدًا عن الطرف الآخر، المشترك فى فعل العار، "الذكر" الكائن المدلل، المغفور له كل الذنوب، وخطاياه مبررة مسبقًا، ولا شىء يعيبه إلا "فلوسه". 
ثقافة تقول إن المرأة تحب أن تكون الأخيرة فى حياة الرجل، حتى لو "بتاع ستات"، لكن الرجل يحب أن يكون الأول فى حياة المرأة. 
ثقافة "مقطع السمكة وديلها" للرجل، و"القطة المغمضة" للمرأة. وهذه القطة المغمضة لو تخلت عن عذريتها فى علاقة عاطفية، يتخلى عنها الرجل قائلًا: "لا أتزوج واحدة فرطت فى شرفها قبل شرع ربنا الحلال". تقول باكية فى هوان ومذلة كأنه أفضل منها أو هو السيد وهى من الجوارى المستباحات: "صدقتك حين قلت إنك تحبنى... طب واللى فى بطنى". بكل استعلاء وبجاحة يرد: "ملياش فيه.. دى مشكلتك.... وبعدين مين قال إنه بسببى.. عاوزه تورطينى وخلاص". 
    والنتيجة، أن تقتل هذا الرجل الكاذب وتعدم، أو  تنتحر خوفًا من الفضيحة والعار، أو تهرب وتختفى، أو تلد وتترك الطفل فى الشارع، أو تتخلص منه.
     أما إذا عرف أهلها، فإن مصيرها القتل. 
وإذا لم يعرف أهلها، وتقدم لها عريس، تذهب لترقيع غشاء البكارة بمبلغ لا يُذكر، وتستعيد 
شرفها، وترجع "القطة المغمضة" العفيفة الشريفة البكر، رغم ممارستها الخديعة والكذب. 
ويستلم العريس عروسته البكر، البتول، سعيدًا لأنه "البطل المغوار" الأول، الذى اخترق حصن الغشاء المقدس، والعروسة تضحك من أعماقها، على زوجها الساذج المخدوع.    
ما هذا الشرف "الرفيع" الذى يُستعاد بالترقيع؟. وما هذه العفة المرهونة 
بـ"غُرزة"؟.
لا بد من  فض الاشتباك بين فض غشاء البكارة ومعنى الشرف، نهائيًا، وأن تُشرع قوانين عاجلة صارمة رادعة ناجزة، ضد كل منْ ينتهك كرامة الجسد وكبرياء النفس، للفتاة والمرأة، أو يذبحها لأنها بدون غشاء بكارة، وأن تنشئ الدولة مركزًا خاصًا ينقذ ويؤوى الفتيات والنساء الهاربات من توعد الأهل بالقتل. 
الكل "يفتى" حول جسد المرأة، إلا المرأة نفسها، صاحبة الجسد، ومالكة الجسد.
الحقيقة أن المرأة ترتدى فقط  جسدها، لا تملكه فى أبسط قواعد الملكية، منذ ولادتها حتى تموت. جميع الذكور حولها، يملكونه من كل الاتجاهات، يملكونه بحق مغتصب فى السِر والعلن، بآليات التلصص والتربص والرقابة والزى وقوانين الأحوال الشخصية، وتشريعات الزنا، والتحرش، والاغتصاب، والوصاية والفرض واستباحة التشهير. 
لماذا لا يبحث الرجال عن معنى الشرف والعفة والفضيلة والأخلاق، فى مكان آخر، غير أجساد النساء؟. 
لماذا لا تتناقض "عفة المرأة" مع ممارستها الكذب والغش والنفاق وأخذ رشوة وإهمال شغلها، ونكثها بالعهود، وجحودها لأبيها وأمها، واصطياد العريس لثرائه وليس لأصله الكريم، وتشغيل ميكرفونات تنتهك حرمة البيوت فى المآتم والأفراح، وتربية الأطفال على القهر وإعادة إنتاج الذكورية، والتجارة بالأديان، والتآمر ضد الوطن؟. 
المجتمع الذى يحمل بطحة العِفة على رأسه، ويحسس عليها طوال الوقت، ليل نهار، ويذبح المرأة فاقدة "العِفة"، نسمعه يشتم علنا بأعضاء "العِفة" فى جسد المرأة. ولا أحد يعترض، أو يرى التناقض الفج، والإهانة اللفظية والفكرية. 
جميع أشكال ودرجات قهر المرأة والتمييز ضدها، نابع من تدشين الثقافة الذكورية، عبادة "غشاء البكارة"، ذلك الإله الذى لا يهدأ، إلا بتقديم القرابين من النساء، يلتهم لحمهن، ويشرب دماءهن، فى طقوس علنية، هى جرائم بمنطق العدالة والعقل والإنسانية.
كتبت الصحافة المحلية عن أهمية 25 نوفمبر اليوم العالمى للقضاء على العنف ضد الفتاة والمرأة، وأشادت أنه يتزامن مع حملة "اتحدوا للنضال من أجل ايقاف العنف ضد المرأة" من 25 نوفمبر حتى 10 ديسمبر اليوم العالمى لحقوق الإنسان. 
إن جرائم غشاء البكارة أو ما تسمى جرائم الشرف، فى قائمة العنف ضد الفتيات والنساء. لكن ما النتيجة؟. 
كلام على الورق، ودعاية ومزايدات دائمًا تضحى بحقوق النساء وكرامتهن وأرواحهن، ولا  تنقذ الفتيات اللائى يتعرضن كل يوم، للقتل بالخنق والحرق وإطلاق الرصاص والذبح وحش الرقاب. 
لا بد أن تختفى كلمة "العرض"، ومقولة إن "أعز ما تملك" الفتاة أو المرأة، هو غشاء البكارة. واستمراره يعنى أن الفتاة أو المرأة، هى "أنثى"، مستعبدة، وليست "إنسانة" حرة. 
أعز ما تملكه المرأة، هو بالضبط أعز ما يملكه الرجل، شجاعته وصدقه وعدم الكيل بمكيالين، واتساق تفكيره مع العدالة والمنطق وقيم النبل الإنسانى، وشغله السلاح ضد الحاجة والعوز، ومنفعته لمجتمعه.

من بستان قصائدى:

لم أعرف أبدًا مذاق الدموع
لأننى دائمًا أبكى تحت المطر
لم أعرف أبدًا لى مستقَرًّا
منذ ولادتى
تبنّتنى موانئ السفر
لم يدقّ الملل على بابى
لأننى أعيش دائمًا
على حافة الخطر
أنا سيدة قراراتى ومشاعرى 
ليست لعبة فى يد القدَر
لا تُريحنى طبائع البشر
لست أبالى
بمَن جاء أو حضر
لا أنظر أبدًا إلى النجوم
فأنا بكل تواضع توأم القمر