رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

نتنياهو باع الوهم للإسرائيليين! "1"

مثل مخطط هرمى يصل إلى نهايته القاتمة، انهارت جميع الوعود الاستراتيجية التى قطعها رئيس وزراء إسرائيل، بنيامين نتنياهو، فى العقد ونصف العقد الماضيين.. إذ فى السابع من أكتوبر الماضي، تم الكشف أخيرًا عن أن نتنياهو، من نفس نوعية الإسرائيلى بيرنى مادوف، الرجل الذى أدار لسنوات مخطط "توظيف أموال" واسعًا، ثم فر هاربًا بغنيمته، تاركًا المودعين يتألمون من ضياع أموالهم، تمامًا كـ"مستريح" مصر، الذى عانى بعض المصريين كثيرًا من عمليات نصبه لسرقة أموالهم.. ولم يبق اليوم الكثير من الإنجازات العظيمة التى افتخر نتنياهو وأتباعه بأنهم حققوها لمواطنيهم.
لم يعد الإسرائيليون يتمتعون بأهدأ عقد أمنى على الإطلاق، والذى ادّعى نتنياهو الفضل فيه قبل ثلاث سنوات فقط.. على العكس من ذلك، كان عدد الأشخاص الذين قُتلوا فى إسرائيل عام 2023 هو الأعلى منذ خمسين عامًا، منذ حرب السادس من أكتوبر 1973.. لقد تم تقويض الشعور بالأمن، فى الداخل وعلى الحدود، تمامًا.. لقد تم إضعاف الردع فى مواجهة حماس وحزب الله وغيرهما.. تواجه إسرائيل معركة متعددة الساحات، يختلف نتنياهو ومساعدوه حول ما إذا كانت ثمانية أو سبعة أو ستة تهديدات مختلفة فقط.. أثبتت الأحداث كذب الفكرة القائلة بأنه سيكون من الممكن تجاوز الصراع مع الفلسطينيين، عن طريق ترتيبات السلام والتطبيع مع دول الخليج.. وكذلك الحال بالنسبة للفكرة الملتوية المتمثلة فى تقوية حماس على حساب السلطة الفلسطينية، على أمل أن يكون من الممكن الحفاظ، إلى الأبد، على سياسة "فرق تسد" فى الأراضى المحتلة، والتى من شأنها أن تُحبط إقامة دولة فلسطينية مستقلة.. لقد أثبت الدعم الذى حصلت عليه إسرائيل من الولايات المتحدة أنه قوى، ولكنه ليس بسبب نتنياهو، ففى كل فرصة تُعبر إدارة بايدن عن اشمئزازها من رئيس الوزراء.. كما أن توقع الحصول على ميزة بديلة من العلاقات مع القوى الدولية الأخرى، مثل روسيا والصين، بفضل علاقات نتنياهو الشخصية مع قادتهما، قد تحطم أيضًا منذ الهجوم الذى شنته حماس على المستوطنات المجاورة لقطاع غزة.
لذلك، يقول الكاتب الإسرائيلى، عاموس هاريل، فى مقال له بصحيفة "هآرتس"، إنه يتعين على إسرائيل الآن الإبحار فى واقع استراتيجى جديد وغير سار، بينما تحاول أيضًا تعويض الميزة الهائلة التى سجلتها حماس، فى اليوم الأول من الحرب نفسها، قتلوا وأسروا ما يقرب من ألف وأربعمائة مدنى وجندى.. إن الأضرار والقتل الذى ألحقته القوات الإسرائيلية فى الهجوم على غزة أكبر بكثير من كل ما فعلته حماس.. فقد دمرت معظم المنازل فى شمال القطاع أو أصبحت غير صالحة للسكن البشرى، وأحصت وزارة الصحة الفلسطينية مقتل قرابة خمسة وعشرين ألف شخص، وفقدان نحو سبعة آلاف آخرين. لكن هذا الطريق لا يؤدى، بطريقة ما، إلى نصر سريع، وأنه حتى لو استمر الجيش الإسرائيلى فى هجومه، ستكون هناك حاجة إلى مزيد من الوقت لهزيمة حماس حقًا.
وطوال الحرب، لعبت حماس لعبة "الروليت" الروسية مع الأسرى، إذ لا يزال 136 مدنيًا وجنديًا فى قطاع غزة.. وقد أعلن الجيش الإسرائيلى عن مقتل خمسة وعشرين منهم، لكن العدد الحقيقى قد يكون أعلى من ذلك. لأن ظروف الأسر، كما يشهد على ذلك الرهائن الذين عادوا من غزة قبل شهرين تقريبًا، لا تطاق وتجعل الموت أقرب من أى وقت مضى إلى الأسرى المتبقين، بسبب تعرضهم للقصف من قِبل القوات الإسرائيلية، كما حدث مع المحتجزين الثلاثة الذين رفعوا رايات بيضاء، ومع ذلك تم قتلهم.. وكلما أصبح الوضع فى غزة أكثر دموية وخطورة، فوق الأرض وتحتها، كلما بدا سلوك نتنياهو والوزراء أكثر انفصالًا عن الأحداث.
وكما قلنا فى المقال الماضي، فإن إدارة بايدن تفكر بالفعل فى "اليوم التالى لنتنياهو" فى الشرق الأوسط، والذى سيشمل خطة لإعادة تأهيل قطاع غزة بتمويل سعودي، وتسوية سياسية إقليمية، واستعدادات لإقامة دولة فلسطينية، مع "سلطة فلسطينية متجددة"، مسئولة جزئيًا عن إدارة قطاع غزة، إلا أن نتنياهو يقاتل بقوة ضد هاتين النقطتين.. ومن الناحية العملية، يبدو كما لو أن اهتمام الولايات المتحدة بما يحدث يتراجع إلى حد ما.. حصلت واشنطن من نتنياهو على شيئين تريدهما: تخفيض فى الهجمات الجوية التى تسبب القتل الجماعى للمدنيين فى غزة، وتخفيف القوات البرية فى القطاع.. إنها ليست بالضبط الشكل المحدود للحرب الذى كان الأمريكيون يأملون فيه، لكنها ليست سيئة مثل ما كان يحدث هناك من قبل.. بدأ الرئيس جو بايدن الآن فى تركيز اهتمامه على انتخابات الرئاسة فى نوفمبر، حيث يلوح دونالد ترامب مرة أخرى، كتهديد خطير لولاية بايدن الثانية.
وهنا يأتى السؤال: هل الحكومة الإسرائيلية عازمة على أن تصبح عالقة فى مستنقع غزة لسنوات قادمة؟.
فى الوقت الحالى يبدو أن الأمريكيين لن يسحبوا إسرائيل منها بالقوة.. ومع ذلك، إذا تجاوز نتنياهو بعناد الخطوط الخطرة، فقد تفكر الإدارة الأمريكية فى أن تكون أكثر بخلًا فى توريد الذخائر وقطع الغيار إلى الجيش الإسرائيلى، وهذه قضية صعبة، خصوصًا إذا تطورت حرب واسعة النطاق فى لبنان.. العلاقات بين بايدن ونتنياهو تكاد تكون سيئة، مثل علاقات الأخير مع وزير الدفاع يوآف جالانت- الذى بالكاد يتحدث مع رئيس الوزراء- ولكن إذا كان نتنياهو يأمل فى فوز ترامب فى انتخابات الرئاسة الأمريكية المقبلة، فمن الأفضل له أن يفكر فى تداعيات محتملة أخرى أيضًا.. فى عام 2026، من المقرر توقيع اتفاقية مساعدات دفاعية جديدة بين تل أبيب وواشنطن.. فهل من المؤكد أن يُظهر ترامب، فى فترة ولاية ثانية، تجاه إسرائيل نفس الكرم الذى فعله باراك أوباما وبايدن، أم أنه قد يُخفض هذه النفقات؟.
فى الوقت نفسه، يبدو أن وسائل الإعلام والجمهور فى إسرائيل لا يدركون، بما فيه الكفاية، خطر اندلاع وشيك فى الضفة الغربية.. فى كل لقاء مع صناع القرار السياسي، يوجه جهاز الأمن العام "الشاباك" والمخابرات العسكرية تحذيرات أكثر حدة، من أى وقت مضى، حول التصعيد فى مناطق السلطة الفلسطينية فى الضفة الغربية، حيث يعمل الجيش الإسرائيلى الآن فى الضفة الغربية على نطاق وبكثافة لم نشهدها منذ الانتفاضة الثانية أوائل عام 2000.. وللمرة الأولى فى الأشهر الثلاثة الماضية، يرسل الجيش أيضًا إلى الضفة الغربية قوات من الجيش النظامى من غزة، من أجل تعزيز وحدات الاحتياط التى تم استدعاؤها فى أكتوبر الماضى. وفى الشهر الماضى، نفذت عمليات واسعة النطاق على نطاق اللواء فى جنين وطولكرم ومنطقة قلقيلية، وسط احتكاك متزايد مع المقاتلين المسلحين واستخدام مكثف للهجمات من الجو.
وعلى الرغم من أن الوضع فى الضفة الغربية يتسبب فى ليال بلا نوم، إلا أن نتنياهو محشور فى الزاوية من قبل الوزيرين اليمينيين المتطرفين، إيتمار بن غفير، وبتسلئيل سموتريتش.. وتحت ضغطهما، فهو لا يتقدم بجدية فى صفقة للرهائن، ويرفض بشدة دمج السلطة الفلسطينية فى حل مستقبلى فى غزة، بل يصر على مواصلة الحظر المفروض على عبور العمال من الضفة الغربية إلى إسرائيل، حتى على نطاق ضيق، وعلى استمرار تجميد تحويل الضرائب التى تجمعها إسرائيل إلى الفلسطينيين فى الضفة الغربية.. وتؤدى هذه السياسة إلى تفاقم الوضع الاقتصادى للسلطة الفلسطينية وتزيد من احتمال اشتعالها.. ويبدو كما لو أن نتنياهو قد نفدت أفكاره لإيجاد مخرج من الوضع فى الأرض المحتلة.. يُضيع رئيس الوزراء وقته فى نشر الوعود الفارغة بقدر ما هى شعبوية.. عندما يتم دفع نتنياهو إلى الزاوية، يضطر إلى الإدلاء بتصريحات مشكوك فى مصداقيتها، كما فى حالة ما إذا كانت الأدوية التى دخلت غزة يوم الأربعاء الماضي، سيتم فحصها من قبل إسرائيل.
ولكن عندما يتعلق الأمر ببقائه الشخصي، يبدو نتنياهو أكثر حدة.. وينشغل الموالون له فى الليكود ومبعوثوه فى وسائل الإعلام بتشويه سمعة رئيس أركان الجيش الإسرائيلي، هرتزل هاليفي.. وبالإشارة إلى كبار المسئولين فى الجيش الإسرائيلى والشاباك، باعتبارهم يتحملون وحدهم المسئولية عن الفشل الذى أدى إلى أحداث السابع من أكتوبر، فإن الخطوة التى اتخذها مراقب الدولة، ماتانياهو إنجلمان، الذى بدأ فحصًا سريعًا لأحداث الحرب، تسفر عن نتائج فورية.. كل من كبار الضباط منغمس بالفعل فى إعداد خط دفاعه، مع تلميح المراقب المالى إلى أنه يعتزم استخلاص استنتاجات فى شهر يوليو من هذا العام.. إنه رهان آمن على أنه ستكون هناك تسريبات جيدة التوقيت من عمل المراقب المالى فى الأشهر المقبلة.. ووفقًا لمسئولين كبار فى الليكود، فإن نتنياهو مقتنع بأن الجمهور سيبرئه من المسئولية عن الكارثة، لأنه فى ليلة السادس والسابع من أكتوبر، عندما أجرى مسئولون رفيعو المستوى فى الجيش الإسرائيلى والشاباك مشاورات فى أعقاب معلومات جزئية حول نشاط غير عادى لحماس فى غزة، لم يطلعوه على آخر المستجدات.. ونستكمل المقال غدًا.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.