رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

شغف

أطاعت الفن لا الرجل

لا تغضبى أرجوك.. ولا تحسبى أننى نسيتك، وأنكِ بعيدة عن سِن القلم.
لم يشغلنى عنك إلا مرضى الشديد بفيروس كورونا المتحور. لحسن حظى، أنه لا يسبب الوفاة، كما الموجة الأولى. لكنه يعوض ذلك، بالإقامة الطويلة المنعمة داخل دمى وفى جسدى. إنهاك شرس يطيح بطاقة الجسم، وسعال تهتز له أركان بيتى، ودرجة سخونة تغار منها قلوب العشاق.
كنت أنتظر بعض الشفاء، لأن معك لا أستطيع الكتابة إلا بدمى. ودمى كان مرعى لفيروس ينشط فى الخريف والشِتاء. 
سرقت جثمانك، وأودعته داخل قلبى. هرب صوتك من الأغنيات، 
وتناثر على جلدى، بطول أشجانى وقامتى. 
هكذا أرد بعض الجميل، لأمها الأميرة "علياء المنذر"، التى ولدتها فى أحد أيام الخريف، على سطح سفينة "بحرية". وأهدتنا طفلة تحمل دمها، وموهبتها، وطموحها، ومأساتها.
"آمال الأطرش"، هكذا أسمتها الأم، ربما يوافيها القدر، وتعوض "آمال" الأسرة الشريدة، المطاردة، المهاجرة، من سوريا، إلى مصر. 
كلما تذكرت عائلة "آل الأطرش"، العريقة، المناضلة، التى تترك وطنها فى جبال الدروز، إلى سهول مصر، لتأمن على نفسها من اضطهاد الاحتلال الفرنسى، كلما اقتنعت بأن التحديات توجد لكى نتغلب عليها. وكلما تأكدت أن "الموهبة" الفطرية التى تحافظ على نفسها، من جيل إلى جيل، وتأبى التراجع والاستكانة، وقبول الواقع، لا أحد يستطيع قهرها، حتى لو كان جبروت الاحتلال الأجنبى، وجبروت الفقر، وجبروت اليأس.
كلما تذكرت، الأميرة علياء تغنى، وتعزف العود، فى الحانات، لكى توفر الحد الأدنى من المسكن، والطعام، لأولادها الثلاثة: "فريد"، "آمال"، و"فؤاد"، بعد أن كانت أميرة، معززة، مكرمة، كلما تيقنت أن "الأمهات" هن حقا سبب استمرار الحياة. وأنهن لا يكترثن بالمناصب، والألقاب، ويطحن دون ندم، بالحسب والنسب، والجاه، والسلطان، لو تعرض أولادهن، وبناتهن للخطر. 
بفضل احتمال الأم كُتب عمر جديد للأسرة ذات الأصل النبيل.  
"فريد"، ابن السلطان فهد الأطرش، الذى لم يتحرج من اللف فى الشوارع لبيع بضاعته من الأقمشة، ليساعد الأم فى نفقات المعيشة.
وأصبحت آمال أخته "أسمهان"، تلك اللؤلؤة التى تصدح فى سماء الغِناء، فأسرت القلوب، وسحرت النفوس. 
قالوا: "الأخ، وأخته، من أسرة واحدة؟؟.. هذا غير معقول..الأخ يغنى ويعزف ويلحن... والأخت تشدو فيتوقف الكون لسماعها ؟؟". 
وفعلا، كان "فريد" و"أسمهان" حدثًا فنيًا لا يُصدق. كانا مثل "ظاهرة فلكية" نادرة الحدوث، و"حدثا كونيا" أبهر الناس.
لا يوجد صوت جميل، أو لحن مبدع، إلا وله مكان خاص فى قلبى. وأعجز عن حب رجل ليس على علاقة وثيقة بالموسيقى والغِناء. 
لكننى أعترف بأن "أسمهان" استثناء. هى التى أجد فى صوتها الحزن الذى أريد أن أحزنه.. فى صوتها المرارة التى أنتشى بتذوقها.. فى صوتها العزاء الوحيد الذى يصبرنى على حياة أكرهها... "أسمهان" هى لروحى الحائرة دواء، ومن كل داء هى شفاء. وهذا ليس غريبا على واحدة وُلدت، يحيطها "البح"، ورحلت فى "الماء". 
أما "فريد"، فهو حقا "فريد"، الذى أجرى إليه كلما اشتقت إلى البكاء النبيل.. وبخلت السماء بالمطر.. وكلما احتجت إلى جذورى لألتصق بها.. وكلما تشبثت بالاستغناء الذى أوصتنى به أمى "نوال".
كم أشعر بالامتنان لآل الأطرش، فأنا لا أعرف كيف كنت سأعيش، وأواصل البقاء، وأحتفظ بأصالتى وتفردى، بدون "أسمهان"، و"فريد"؟.
يندهش الناس حولى، ويسألوننى: "كيف تعيشين بلا أصدقاء؟؟.. الصداقة نعمة كبرى لا حياة بدونها"؟. 
وأنا بدورى أندهش من السؤال، ولا أجد إلا ردا واحدا، نهائيا، يتكرر: 
"فريد" هو صديقى الحميم، و"أسمهان" هى صديقتى الحقيقية.. منْ تريد الأصدقاء وعندها فريد، وأسمهان؟.  
14 يوليو هذا العام كان ذكرى رحيلها التاسع والسبعين. 
25 نوفمبر هذا العام، كان ذكرى ميلادها الحادى عشر بعد المائة.
أين "أسمهان" فى حفلات تكريم، أو فى مهرجانات الموسيقى العربية. لا أدرى، أين ذهبت "أسمهان"، أين أخفوا "أسمهان"؟؟.
كل عام تمر ذكرى ميلادها، ورحيلها، بإهمال مخجل، وجحود مزرٍ.
ولا أدرى السبب. منْ المستفيد من هذا الإهمال، والتجاهل، والنسيان، لموهبة مثل "أسمهان" ؟؟. أهم ورثة بعض المطربات المشهورات؟. أم رغبة مطربات على قيد الحياة ليس من مصلحتهن أن نسمع "أسمهان"؟.
وُلدت "أسمهان" فى الماء المالح، وماتت فى الماء العذب. ومن الملح والعذوبة كانت خيوط صوتها، ونسيج مأساتها.  
أيها النائم.. أنا اللى أستاهل.. يا طيور.. يا حبيبى الحقنى شوف اللى جراللى.. فرق ما بينا ليه الزمان.. دخلت مرة جنينة.. كان لى أمل.. نويت أدارى آلامى.. رجعتلك يا حبيبى.. يا بدع الورد.. أنا أهوى.. ياللى هواك شاغل بالى.. أسقنيها.. ليت للبراق عينا.. الليل.. إيدى فى إيدك.. انتصار الشباب.. الشروق والغروب.. مجنون ليلى.. غير مُجد فى ملتى واعتقادى.. الشمس غابت أنوارها.. 
هذه من بعض الكنوز التى تركتها لنا "أسمهان"، دون وصية أخيرة. 
ما أجمل  الحياة و"أسمهان" تغنى لى وحدى، فى سكون الليل، لحن الفذ المتفرد "محمد القصبجى": "فرق ما بينا ليه الزمان"، و"إمتى هتعرف إمتى إنى بحبك إنت"، ومن ألحان "فريد" تلك الأعجوبة الموسيقية "ليالى الأنس فى فيينا". ومن ألحان "رياض السنباطى": "أيها النائم بعيدا عن ليلى سلاما.. لم يكن عهد الهوى إلا  مناما". 
أما لحن القصبجى "أنا اللى أستاهل كل اللى يجرالى.. الغالى بعته رخيص ولا أحسبوش غالى" فهو أنبل الختام، وأصدق العزاء من صديقتى الحميمة،  "أسمهان" حين أغرق فى بحور الأسى والحسرة.
كثيرون وقعوا فى غرامها. لكنها لم تقع إلا فى "غرام وانتقام"، على يد عميد المسرح العربى "يوسف وهبى". ومعها كل الحق، فهو الفنان الذى استرخص كل شىء من أجل فنه، وإبداعه. فى عينيه الزرقاوين، اختصر نبل الرجال، وشهامة الفرسان، وحساسية العُشًاق. كيف تقاومه؟؟. 
أما فى الحياة، فقد أحبت مبكرا، ابن عمها حسن الأطرش، وأنجبت ابنتها الوحيدة "كاميليا" التى يوافق تاريخ ميلادها السابع 14 يوليو 1944، تاريخ موت أمها. وهذا سر آخر من أسرار "أسمهان" حبيبة الماء.
ثم أحبت وتزوجت النجم الوسيم الممثل والمنتج والمخرج والمهندس والمذيع، والطيًار المصرى "أحمد سالم" 20 فبراير 1910- 10 سبتمبر 1949، الذى افتتح الإذاعة المصرية 31 مايو 1934 بجملة "هنا القاهرة" لأول مرة.
لحن "ليالى الأنس فى فيينا"، الذى أهداه "فريد" لها، هو عمل موسيقى ينافس أفخم وأشهر المؤلفات الموسيقية العالمية. لحن درامى، ملحمى، متعدد المقامات، والمشاعر المتناقضة، والجمل الموسيقية المبهرة، فى عنفوانها، ورشاقتها، وسلاسة تحولها من إحساس لآخر. هل أحس "فريد"، بحدسه العاطفى، والإبداعى، أن أخته ستواجه مأساة غامضة، فأراد أن يهديها عصارة مشاعره، وموهبته، وحبه، ليكرمها، ويختم حياتها القصيرة بلحن من ألحان الخلود؟؟. ومن الصعب أن نصدق أن "ليالى الأنس فى فيينا"، من كلمات أحمد رامى، قد أبدعه "فريد" وهو فى مقتبل العمر، فى عام 1944، على الدرجة الأولى، من سُلم المجد، ويقف شامخا، مع ألحان القصبجى، والسنباطى (جهابذة التلحين فى ذلك الوقت)، وقوف الند للند، إن لم يكن أكثر تميزا. 
غنت "أسمهان" من كلمات أحمد رامى، والأخطل الصغير (بشارة الخورى)، ويوسف بيدروس، وعبدالعزيز سلام، وإسماعيل صبرى باشا، وأحمد جلال، وأحمد شوقى، وأحمد فتحى، أى كل نجوم الكلمة فى عصرها. 
أول فيلم لفريد وأسمهان، معا، كان "انتصار الشباب" 1941، إخراج أحمد بدرخان، 18 سبتمبر 1909- 26 أغسطس 1969، يحكى بعضا من سيرة فريد وأسمهان الحقيقية، من بؤس العيش إلى بداية الطريق نحو تحقق الموهبة، وانبهار الناس، وقبل أى شىء، تحقق أمنية "الأم" الأميرة علياء المنذر، وهى ترى أن جهدها، وتضحيتها، وشقاءها، لم تذهب هدرا. 
سر تميز "أسمهان" عن بقية النساء، والفنانات، أنها أحبت الفن أكثر من حبها للزواج، والعيش فى كنف رجل. كانت تريد أن تعيش على "ذمة الفن والغِناء والطرب والسينما"، وليس على "ذمة رجل". عشقت انطلاق الفن وحريته، وآفاقه الأرحب، الأروع من آفاق جسد الزوج، والمطبخ، وغرفة النوم، وتربية الأطفال. 
خطيئتها التى لم تغفرها لها الحياة أنها كانت تفضل "طاعة الفن" عن طاعة الرجل "خليفة الله على الأرض"، فكان لا بد أن تختفى، وبسرعة، حتى لا تصبح قدوة للنساء والفنانات. 
أهدى "فريد" لأخته "أسمهان"، الذى كان يراها توأم روحه، أغنيته الشهيرة النازفة بجزع الفراق، وذهول الحزن "كفاية يا عين". وفى كل مرة، يشدو بها، كانت الدموع تسبقه إلى أحبال صوته، وأوتار العود. 
فى كل حفلات "فريد" كان الجمهور يستقبله بعاصفة من التصفيق، والاحتفاء، والحب، لا تنتهى إلا بطلب "فريد" نفسه، أو لتعجل الجمهور للاستماع له، ولأوتار "العود"، رفيقه الدائم. وهذا شىء لم يكن يحدث لعبدالوهاب نفسه، أو لأم كلثوم نفسها. التفسير المنطقى الذى اهتديت إليه أن الجمهور كان يصفق لـ"فريد"، و"أسمهان" معا. 
إحساسى ينبئنى بأنه حتى لو "هلكت" الأرض، فإن "أسمهان"، سوف "تنجو". فمنْ وُلد، ومات مثلها، فى "الماء"، لا يضيع.  
"الماء" و"أسمهان" متشابهان.. الماء أصل الحياة، وأسمهان أصل الغِناء. الماء ينظف، ويطهر، وينقى، وينعش. وهكذا تفعل أسمهان، تنظف، وتطهر، وتنقى، وتنعش. 
 وُلدت "أسمهان" فى الماء المالح. وماتت فى الماء العذب. ومن الملح والعذوبة كانت خيوط صوتها، ونسيج مأساتها. 

وكانت "أسمهان" وفية للماء. فقد كانت "سمكة" تسبح إلى شواطئ، ليس لها انتهاء مثل صوتها. "سمكة"، عيونها خضراء، عصية المنال على 
"طُعم" أبرع وأجرأ الصيادين. 
 لم تستسلم إلا لشبكة الصياد الوحيد، الذى يحب فريسته ولا يأكلها..
"الفن".
 

من بستان قصائدى 


لا أريد أن أكون 
أشهر من النار على العَلم 
لا أريد أن أعيش 
مملوكة من ذكر 
أو وطن  
لا أريد أن أموت 
رغما عنى مثل الخِراف والغنم 
لا يغرينى المال والجاه 
أعشق وحدتى 
دون الخدم والحشم 
قلبى منارتى 
عقلى دليلى 
صادقة دون حلفان أو قسم 
أريد أن أتحدى أقدارى 
وأن أنتهى فى حضن القلم